من ستينيات القرن العشرين حتى التسعينيات وقفت الحكومات الإثيوبية مع المستوطنين الأمهريين ضد السكان الأصليين، وأسّست قوات شبه عسكرية للقضاء على مقاومة الفلاحين الغوموز (السكان الأصليين)، ودفعتهم إلى أطراف الأراضي المنخفضة، ونزعت سلاحهم. وحتى بعد أن تم تشكيل الفيدرالية العرقية، انحازت الحكومات للأمهريين ولولاية أمهرة في أي نزاعات مع إقليم بني شنقول.
أزمة عميقة في الإقليم المقام على أرضه سد النهضة
وفي يناير/كانون الثاني 2021، أعلنت الحكومة الفيدرالية حالة الطوارئ في منطقة ميتيكل بعد مذبحة وقعت بحق المستوطنين الأمهرة، وسيطرت القوات الفيدرالية على الأمن في المنطقة. وعرّض ذلك مجتمعات الغوموز لحملة قمع شديدة من جانب الجيش الإثيوبي، مما أدى إلى مذابح مزعومة للمدنيين على يد القوات الفيدرالية.
النهضة الاقتصادية تقوم على انتزاع أراضي الفقراء والأقليات
كثيرًا من الدراسات الغربية رصدت أنّ ما يوصف بالنهضة الاقتصادية الإثيوبية والتي قامت على التوسع في الزراعة التجارية المدعومة بالاستثمارات الكبيرة منها الأجنبية بنيت إلى حد كبير على الاستيلاء على أراضي الفلاحين الصغار، ولا سيما من الأقليات، حيث تم مصادرة الأراضي على نطاق واسع للمجتمعات المحلية في غامبيلا وبينيشانغول ومناطق الغوموز.
ويُمثّل الأمهريون حليف آبي أحمد في هذا المشروع لأنهم يمثلون نخبة منتشرة في أنحاء البلاد، وجزء كبير منهم مستوطنون في أقاليم العرقيات الأخرى، وتاريخيًا، كان النهم للأراضي الزراعية والسلطة يحرّك الأمهريين بالنظر للطبيعة الجبلية لمناطقهم الأصلية غير المحابية للزراعة.
وبعد الخلاف بين جبهة تحرير تيغراي التي تحكم إقليم التيغراي، (والتي تخلت عن السلطة في أديس أبابا لآبي أحمد) اندلع تمرّد في الإقليم، واستعانت الحكومة بميليشات أمهرة لوأد التمرّد لأنّ لها أطماعًا تاريخية في أراضي التيغراي، ولقد اتهمت المنظمات الحقوقية الدولية الحكومة وميليشيات الأمهرة بتنفيذ مذابح وعمليات اغتصاب وتطهير عرقي واستيلاء على الأراضي بحق التيغراي، إضافة للحصار وقطع الخدمات والقصف والاعتقالات والتصفية الجماعية قبل أن يتم توقيع وقف إطلاق نار بين الجانبين.
وقد أدى ذلك لمشكلة جديدة وهي الفض المحتمل للتحالف بين آبي أحمد وبين ميليشيات أمهرة التي قاتلت إلى جانب القوات الفيدرالية في حرب تيغراي 2020-2022، مع تحرّك أبي أحمد لكبح جماح هذه الميليشيات، حيث اتهموه بالتآمر لإعادة الأراضي المتنازع عليها إلى تيغراي التي استولى عليها إقليم أمهرة خلال الحرب، وذلك تنفيذًا للاتفاق.
كما أدى وقف حرب تيغراي إلى عودة التوتر بين أكبر قوميتين بالبلاد، وهما الأورومو والأمهريون، ويخوض آبي أحمد حاليًا معركة ضد تمرّد متوسط الكثافة في منطقة الأمهرة.
ويمكن اختصار هذا المشهد المعقّد فيما يمكن وصفه بـ"هيراركية العرق والأراضي"، فنحن أمام دولة ذات جذور إمبراطورية تقف على رأسها قومية الأمهرة، بينما تتوزّع بقية القوميات على أساس هرمي بناءً على اللون والعرق والدين، (ترتقي القومية في الترتيب كلما كان العرق أقل سمرة وأقرب للثقافة المركزية ومسيحي الديانة).
هذه الإمبراطورية بُنيت عبر عقيدة التوسّع الحتمي التي تُشبه العقيدة والتي توسّع الأمريكيون بموجبها للغرب الأمريكي حتى المحيط الهادئ في القرن التاسع عشر، وكذلك تُشبه العقيدة التي تقود التوسّع الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، وهي تشمل خليطًا من الاستيطان الزراعي والدمج الثقافي بدرجات متفاوتة من القسرية مع أيدولوجية دينية قومية مسيحانية.
عملية الاستيطان والإذابة تتبع عادة التوسّع الإمبراطوري الخارجي، نحو الأقاليم المجاورة الإثيوبية يقودها حمى النظرية الفوقية العرقية التي تظهر واضحة لدى الأمهريين وبصورة أقل لدى الأورومو، والتي يحفّزها الجوع للأرض لدى سكان المرتفعات الأمهرية وبصورة أقل الأورومو.
والآن، في ظل وصول النزاع القومي لمرحلة الصدام بين القوميتين الكبيرتين الأورومو والأمهرة، لجأ آبي أحمد إلى إحياء حلم التوسّع الخارجي للإمبراطورية الإثيوبية (بعد استنفاده لجدوى العداء مع مصر والسودان من خلال أزمة سد النهضة).
فتحدث العام الماضي عن أنّ حكومته بحاجة إلى إيجاد طريقة لإخراج شعبها البالغ عدده 126 مليون نسمة من "سجنهم الجغرافي"، وأنّ محاربي إثيوبيا من القرن التاسع عشر أعلنوا البحر الأحمر باعتباره "الحدود الطبيعية" لإثيوبيا، وهو الخطاب الذي يعطي فيها شرعية لتوسّع إثيوبي جديد.
ضرب آبي أحمد القوميات ببعضها ويقوم حاليًا بإحياء المشروع الإمبراطوري عبر السعي إلى التوسّع نحو المحيط الهندي
ولقد بدأ آبي أحمد بتنفيذ هذا المشروع، بإعلان الاتفاق مع جمهورية أرض الصومال الانفصالية غير المعترَف بها دوليًا لتأجير شريط ساحلي وميناء لمدة 50 عامًا بما في ذلك إنشاء قاعدة بحرية.
فقد لجأ آبي أحمد مثل العديد من حكام إثيوبيا إلى ضرب القوميات ببعضها البعض، ولكن اليوم في ظل وصول هذه السياسة لطريق مسدود بسبب الاتفاق مع التيغراي، وفي مواجهة التشظي الداخلي بسبب عدم قدرته على التوفيق بين رغبات أكبر قوميتين الأورومو والأمهريين، فإنه قد يلجأ لاختلاق عدو خارجي، كما فعل من قبل في تصعيد أزمة سد النهضة لتوحيد الشعب الإثيوبي ضد هذا العدو مزعوم، وها هو يقوم حاليًا بإحياء المشروع الإمبراطوري عبر السعي إلى التوسّع نحو المحيط الهندي ومحاولة خلق جيب إثيوبي في أرض الصومال.
إنّ استمرار هذه السياسة دون مقاومة يمثّل تهديدًا لدول الجوار، وقد يترجم لضم أرض الصومال بشكل أو بآخر، في ظل وجود حكومة بهذه الجمهورية الانفصالية على استعداد لفعل أي شيء لترسيخ مشروعها الانفصالي، وفي ظل ضعف حكومة الصومال المركزية والأخطر في ظل الكثافة السكانية في أرض الصومال (5.7 مليون نسمة) التي تجعل مسألة ابتلاعها من قبل إثيوبيا أمرًا غير مستبعد، إذ يُعلّمنا المشروع الاستيطاني الإسرائيلي أنّ النهم للتوسّع وضم الأراضي لا يتوقف إلا بتفكيك أيدولوجيا المشروع ذاته أو الوصول للهدف المرتجى كما حدث مع النموذج الاستيطاني الأمريكي.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")