وجهات نظر

عودة ترامب.. ومستقبل الديمقراطيات غير الليبرالية

لم يتردد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، المرشّح لانتخابات نوفمبر المقبل، بالقول إنه سيتخلى عن سياسة الشراكة مع دول الحلف الأطلسي الأوروبية، بل سيشجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مواجهة أوروبا وسيطلق يده في أوكرانيا. ولقد قوبل هذا التصريح بردة فعل جدية في دول الاتحاد الأوروبي التي اعتبرته تنصلًا صريحًا من الحلف الاستراتيجي الغربي القائم مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، ومن مقتضياته الأساسية حماية أمن القارة في مواجهة التهديد الروسي.

عودة ترامب.. ومستقبل الديمقراطيات غير الليبرالية

تزامنت هذه التصريحات المثيرة مع مقابلة بوتين مع النجم التلفزيوني الأمريكي تاكر كارلسون التي اعتبرتها صحيفة "نيويورك تايمز" مؤشرًا على تحوّل نوعي في صفوف الحزب الجمهوري الأمريكي، الذي قام تقليديًا على حماية المشروع الليبرالي الغربي والدفاع عن القطب الاستراتيجي الرأسمالي ضد الخطر الشيوعي (المستمر راهنًا في السياسات العدوانية الروسية)، لكنه تحوّل تحت قيادة ترامب إلى ذراع قوية للنزعات الشعبوية واليمينية المتشدّدة في الغرب، بما يقرّبه من روسيا البوتينية.

أصوات اليمين المتطرّف تتصاعد في أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية

ووفق استطلاعات الرأي المنشورة في الولايات المتحدة الأمريكية تصل الآراء الإيجابية حول بوتين نسبة ٢٦ بالمائة داخل الأمّة الديمقراطية الكبرى، وتتركّز هذه الآراء في صفوف الحزب الجمهوري الذي يقوده ترامب.

ومع أنّ بولندا هزمت التيار الشعبوي الحاكم سابقًا، إلا أنّ أصوات اليمين المتطرّف تتصاعد في أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية، والخشية قائمة من أن تحتل المركز الأول في الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقررة في يونيو المقبل.

نحن هنا أمام نوع جديد من أنظمة الحكم التي أفرزتها الانتخابات التعددية الحرة، وقد تأرجحت التسميات التي تناولتها ما بين "الديمقراطية غير الليبرالية" و"التسلطية التنافسية"، وهما عبارتان تدلان على الجمع بين الآلية الانتخابية وإغلاق منافذ الحرية والتضييق على المؤسسات المستقلة وتنظيمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني.

مثل هذه الأنظمة هو القائم في روسيا وقد أطلق عليه الرئيس بوتين عبارة "الديمقراطية السيادية"، التي اعتبر أنها تنطلق من عمق الثقافة الأوروآسيوية المرتكزة على سلطة التقليد والنظام والحكم الجماعي بدل معايير الفردية والقطيعة والنفعية التي هي سمات النموذج الليبرالي الغربي.

ومن الواضح أنّ هذا النوع من الأنظمة ينطلق من مرجعية السيادة الشعبية التي يرى أنّ لها الأولوية على كل مضامين وخيارات النظام السياسي بما فيها المنطلقات الليبرالية الدستورية. وفق هذا التصوّر، يتم النظر إلى الشعب من حيث هو كتلة متّحدة ومتجانسة تتحدث بصوت وحيد، وتعبّر عنها قيادة سياسية متناغمة معها، بدل المنظور الليبرالي الذي ينطلق من اعتبارات التعددية والتباين وإدارة الاختلاف.

طرح الفكر الليبرالي منذ ألكسيس دي توكفيل احتمال تعارض الآلية الانتخابية مع المنظومة القيمية الليبرالية، وهو ما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي عندما وصلت إلى السلطة أنظمة عنصرية قمعية عن طريق الموازين الديمقراطية.

فشِل ترامب في تدمير الوسائط المؤسسية الحامية للمنظومة الليبرالية

وهكذا اتجهت الديمقراطيات الليبرالية في العصور الأخيرة إلى إعادة بناء نظرية الشرعية السياسية، بإضافة محددات ضابطة للآلية التنافسية الانتخابية التي قد تكون خطرًا على الروح الديمقراطية نفسها. من بين هذه المحددات السقف الحقوقي للنظام السياسي أي منح الأولوية لمدوّنة حقوق الإنسان الكونية على القوانين والنظم الوطنية المحلية، وإخراج المصالح والمنافع العمومية عن دائرة التجاذبات السياسية بضبطها من خلال مؤسسات رقابة وتنظيم مستقلة.

في بعض بلدان أوروبا، مثل هنغاريا، نجح النظام الشعبوي في تقويض السلط المؤسسية المضادة وفي مقدمتها القضاء، بيد أنّ الرئيس الأمريكي السابق ترامب فشِل في تدمير هذه الوسائط المؤسسية الحامية للمنظومة الليبرالية. ومن هنا مهما كان الخوف مشروعًا من عودة ترامب إلى واجهة الحكم، فإنّ قوة النظام الدستوري والسياسي الأمريكي ستحول دون القضاء على المسلك الديمقراطي الليبرالي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن