على الرغم من اختلاف التوجهات الاقتصادية العربية، إلا أنّ هاجس الاستقلالية الاقتصادية والتخلّص من التبعية لاقتصاد البلد المستعمر ظلّ هاجسًا يوحّد تطلعات الدول العربية، التي سعت خلال سنوات استقلالها إلى سنّ استراتيجيات ومخططات اقتصادية وصياغة تشريعات تتماشى مع هذه التطلعات، ومن بين هذه الدول نجد المملكة المغربية التي حاولت منذ سنة 1956 صياغة توجهات اقتصادية مغربية خالصة كان لرواد الحركة الوطنية ممّن تقلّدوا مناصب حكومية رفيعة دور كبير في صياغتها خلال سنوات الاستقلال الأولى.
كان النهج الاقتصادي للمغرب منذ استقلاله ليبيراليًا قائمًا على احترام الملكية الخاصة وحرية المبادرة باعتبارهما أحد محدّدات المشهد الاقتصادي الوطني، وهو ما تم تنزيله من خلال مجموعة من السياسات والنصوص التشريعية، في مقدمتها قوانين الاستثمار التي كان أول قانون صدر منها في 13 أيلول/سبتمبر 1958، والذي اعتبر في حينها دعوة صريحة للفاعل الحكومي لجلب الاستثمار الخاص، لا سيما الوطني منه.
مع تعاقب الأزمات، فُرض على المغرب مراجعة توجّهاته الاقتصادية الكبرى
هذه الإرادة المُعبر عنها اصطدمت في سنواتها الأولى برغبةٍ في تخليص الاقتصاد الوطني من التبعية المُطلقة للاقتصاد الفرنسي وكذلك من هيمنة المقاولات الفرنسية والأجنبية على المشهد الاقتصادي الوطني، وهو ما أفسح المجال أمام تدخّل الفاعل العمومي بالنظر الى أنّ النسيج المقاولاتي المغربي كان ضعيفًا مقارنة بالمقاولات الأجنبية؛ هذا السعي مكّن الفاعل الحكومي من الهيمنة على قطاعات اقتصادية عديدة، نجم عنها احتكارات كبرى قلّصت الجاذبية الاستثمارية للمملكة ولم تساعد على بروز مقاولات محلية قوية؛ وفي هذا الصدد نورد أنموذج القطاع المينائي الذي عمدت الحكومة المغربية عقب الاستقلال إلى تأميمه بشكل جزئي، وهو ما تم تعميمه على عدد من القطاعات، كالقطاع المصرفي والتأمينات والمحروقات وبعض الصناعات والخدمات، وأيضًا القطاع الفلاحي الذي شهد حضورًا قويًا للفاعل الحكومي.
مع تعاقب الأزمات، فُرض على المغرب مراجعة توجّهاته الاقتصادية الكبرى ومراجعة أداء مختلف الفاعلين الاقتصاديين في مقدمتهم الفاعل الحكومي، وهي المراجعة التي أصبحت أكثر إلحاحًا مع مطلع ثمانينات القرن الماضي، حيث شهد المغرب موجة جفاف حادة أدّت إلى تراجع إنتاجه الفلاحي، إلى جانب تراجع أسعار الفوسفاط وارتفاع أسعار المحروقات بعد اندلاع الحرب الإيرانية ــ العراقية، ناهيك عن استنزاف حرب الصحراء لجزء كبير من موازنة الدولة؛ وهي الأزمات التي تزامنت مع ارتفاع نسب التضخم وتآكل القدرة الشرائية وأداء ضعيف لعدد من القطاعات الاقتصادية، الأمر الذي كان سببًا في أحد أكثر الأزمات الاقتصادية التي شهدتها المملكة حدةً خلال فترة ما بعد الاستقلال، والتي كانت سببًا في عددٍ من الاضطرابات الاجتماعية في بعض مناطق المغرب.
ساهمت الإصلاحات في تعزيز الجاذبية الاستثمارية وتطوير عمل القطاعات الصناعية
وهكذا، شهدنا صياغة نصوص تشريعية جديدة لمواكبة هذا النفس الاقتصادي، وتُوّجت أواخر القرن الماضي بإصدار القانون الإطار رقم 18.95 بمثابة ميثاق الاستثمار الصادر سنة 1995، حيث تمّ من خلال هذا الميثاق تجميع القوانين القطاعية التسع المؤطرة للاستثمار آنذاك بهدف تقديم قانون موحّد لتشجيع الاستثمار الخاص واستقطاب الاستثمارات الخارجية وتخفيف العبء على خزينة الدولة.
ساهمت هذه الإصلاحات في تعزيز الجاذبية الاستثمارية للمغرب لأنه أصبح عمليًا من بين أفضل ثلاث وجهات استثمارية على الصعيد الأفريقي، كما أسهمت في تطوير عمل عدد من القطاعات الصناعية كصناعة السيارات والطائرات والصناعات الاستخراجية.
الرهان اليوم في المغرب عنوانه تسريع التحوّل إلى اقتصاد أكثر استقرارًا يتركّز على الصناعة والطاقات المتجدّدة
طيلة عقدين من الزمن، استنفذ ميثاق الاستثمار القديم إمكانياته الجاذبة، وأصبحت نصوصه بحاجة إلى التحيين والتجديد بُغية مواكبة المستجدات الاقتصادية والتشريعية والسياسية والتكنولوجية أيضًا على المستويين الداخلي والخارجي. وهكذا توجّه عمل المشرّع المغربي إلى صياغة ميثاق جديد يستحضر من خلاله العقيدة الاقتصادية الجديدة للمغرب، خاصة أن الرهان الاقتصادي اليوم في المغرب عنوانه تسريع التحوّل من اقتصاد يرتهن إلى مرتكزات هشّة وغير مستقرّة (الفلاحة والخدمات) تتأثّر بشدّة بالسياقات السياسية والاقتصادية الخارجية والتقلّبات المناخية، إلى اقتصاد أكثر استقرارًا يتركّز على الصناعة والطاقات المتجددة، وهو ما بدا جليًا من خلال مقتضيات الميثاق السالف الذكر، ونعتقد أنّ التنزيل السليم لهذه المقتضيات يتطلّب تسريع تنزيل أوراش إصلاحية كبرى مرتبطة بإصلاح منظومة القضاء والتدبير الإداري وأنظمة التمويل والمواكبة، وغيرها من المشاريع الإصلاحية التي من شأنها تعزيز فرص نجاح هذا الميثاق في بلوغ أهدافه ومراميه.
(خاص "عروبة 22")