بدايةً فإن النظام النقدي الدولي الراهن هو نظام قائم على سلطة الأمر الواقع والهيمنة الأمريكية المباشرة وغير المباشرة من خلال صندوق النقد والبنك الدوليين، وليس نظامًا حقيقيًا ثابت القواعد والمعايير. والنظام الأصلي لـ«بريتون وودز» الذي تأسّس عام 1944 كانت أهدافه الرئيسية هي تشجيع التعاون النقدي الدولي، والعمل على تحقيق النمو المتوازن للتجارة الدولية وتجنّب فرض القيود على المدفوعات الخارجية والوصول إلى نظام متعدّد الأطراف للمدفوعات، والتخلّص من القيود المفروضة على الصرف، والعمل على ثبات أسعار الصرف بين الدول الأعضاء.
كما اعتمد اتفاق «بريتون وودز» الدولار كعملة احتياط دولية تلتزم الولايات المتحدة بتحويلها إلى ذهب وفقًا لمعدّل تحويل هو 35 دولار للأوقية وذلك استنادًا على أنّ الناتج الأمريكي كان يشكل أكثر من خمسيّ الناتج العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، بينما شكلت الصادرات الأمريكية نحو ربع الصادرات العالمية، حيث تحطمت غالبية القواعد الصناعية والخدمية الأوروبية واليابانية والصينية والسوفيتية خلال تلك الحرب.
سقوط قاعدة الذهب وانهيار أسس نظام «بريتون وودز»
في آب/ أغسطس عام 1971 تنصّلت الولايات المتحدة من قاعدة الذهب وألغت من طرف واحد التزامها بتحويل الدولار إلى ذهب لتدمّر القاعدة الأساسية للنظام النقدي الدولي، وذلك بعد أن بدأت تعاني من العجز التجاري ومن استنزاف احتياطياتها الذهبية التي كدّستها خلال الحرب العالمية الثانية والسنوات التالية لها. لكنها أصرّت بمنطق الأمر الواقع ومن خلال الهيمنة على الكتلة التصويتية الأكبر هي وحلفائها في صندوق النقد الدولي، على استمرار وضعية الدولار كعملة احتياط دولية مع الادعاء بأنّ الغطاء الإنتاجي للإصدار النقدي الجديد كافٍ لتأمين جدارة الدولار بتلك الوضعية.
ومع التوسّع الهائل في الإنفاق العسكري الأمريكي الذي كان يزيد على 40% من الإنفاق العسكري العالمي في إطار السباق مع الاتحاد السوفيتي السابق في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، تخلّت الولايات المتحدة منذ عهد رونالد ريجان عن ضبط العلاقة بين الإصدار النقدي الجديد، والزيادة في الناتج، وصارت تصدر أوراقًا بلا رصيد ذهبي أو إنتاجي حسب احتياجاتها لتثري من خلالها على حساب العالم بشكل لصوصي أشد دناءة من أسوأ أشكال النهب التي قامت بها إنجلترا وفرنسا وغيرهما من الدول الاستدمارية -تلك الدول دمرت البنى الاجتماعية ونهبت ثروات البلدان المحتلة وأعملت في شعوبها تقتيلًا واستعبادًا ولم تعمّر فيها لذا أستخدم مصطلح الاستدمارية وليس الاستعمارية- في عهد الاستدمار الكولونيالي.
صندوق النقد تحوّل إلى المحرّك الرئيسي لاضطراب أسعار الصرف في الدول النامية
وتعتمد الولايات المتحدة على أنّ العملات التي تصدرها تهيم في أسواق العالم حيث تسوي الدول المختلفة تعاملاتها من خلالها، ولا تعود للسوق الأمريكية مطلقًا طلبًا للسلع والخدمات. لكن لو افترضنا نظريًا أنّ دول العالم استغنت عن الدولار في تسوية تعاملاتها واستخدمت سلة عملات أو عملة أخرى، فإن الدولارات الهائمة في أسواق العالم ستعود للسوق الأمريكية طلبًا للسلع والخدمات مما سيخلق موجة تضخمية عملاقة وجامحة وغير مسبوقة في التاريخ النقدي يمكنها أن تهدم استقرار ومكانة الاقتصاد الأمريكي والثراء الذي بُني على استغلال وضعية الدولار كعملة احتياط لنهب العالم والإثراء على حسابه.
أما صندوق النقد الدولي الذي تشير وثيقة تأسيسه إلى أنه سيعمل على ثبات أسعار الصرف بين الدول الأعضاء فيه، فإنه تحوّل إلى المحرّك الرئيسي لاضطراب أسعار الصرف في الدول النامية من خلال مطالباته للدول التي تلجأ إليه للاقتراض أو إعادة جدولة ديونها بتخفيض سعر صرف عملاتها مقابل العملات الحرة الرئيسية، وبتحرير سعر الصرف كليًا وترك تحديده لقوى السوق ولهيمنة المضاربين!
الدولار فقد جدارته كعملة احتياط بعد تعملق ديون أمريكا وعجز موازينها الخارجية
رغم استغلال الولايات المتحدة لوضعية عملتها كعملة احتياط دولية في الإثراء على حساب العالم، إلا أنّ الحكومة تستدين لتمويل عجز الموازنة العامة للدولة. وقد تفاقمت الديون الحكومية الأمريكية حتى بلغت مؤخرًا 31,4 تريليون دولار، أي ما يزيد بنحو 4,5 تريليون دولار عن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي المقدّر بنحو 26,9 تريليون دولار في العام 2023!
وللعلم فإن إجمالي ديون الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل بما فيها الصين والهند وروسيا والبرازيل وتركيا والمكسيك وإندونيسيا بلغت نحو 8,7 تريليون دولار، أي ما يزيد قليلًا عن ربع الديون الحكومية الأمريكية أو بالتحديد 27,7% منها. وتدخل الديون الخارجية للدول العربية ضمن ديون الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل. وقد بلغت قيمة الديون الخارجية للدول العربية مجتمعة نحو 366 مليار دولار عام 2021، وهي تعادل نحو 1,2% فقط من الديون الحكومية الأمريكية. ويعود 95% من الديون الخارجية العربية إلى 7 دول هي مصر والمغرب وعمان وتونس ولبنان والسودان والأردن.
احتفاظ الدولار بوضعية عملة الاحتياط الدولية هو «عبث» خارج عن أي منطق
وإذا أضفنا للديون الحكومية الأمريكية العملاقة، حقيقة أنّ الميزان التجاري الأمريكي يحقق عجزًا متواصلًا منذ أكثر من خمسة (5) عقود، وبلغت قيمة عجزه عام 2021 نحو 1181 مليار دولار، مقارنةً بفائض صيني بلغ 675 مليار دولار، وفائض ألماني بلغ 212 مليار دولار في العام نفسه، فإنّ أهلية العملة الأمريكية للاستمرار في وضعية عملة الاحتياط الدولية غائبة تمامًا. كما أنّ ميزان الحساب الجاري الأمريكي يسفر عن عجز متواصل منذ أربعة عقود ونصف العقد. وقد بلغ العجز فيه كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نحو 3,6، 3,6، 2,7% في الأعوام 2021، 2022، 2023 على التوالي، مقارنةً بفائض صيني بلغ 1,8%، 2,3%، 1,4% في الأعوام المذكورة بالترتيب، وفائض ألماني بلغ 7,7%، 4,2%، 4,7% في الأعوام المذكورة على التوالي. أما الناتج الأمريكي الذي بلغ نحو 45% من الإجمالي العالمي عام 1945، ونحو 36% منه عام 1970، ونحو 25% منه عام 1995، فإنه تراجع إلى 22,2% من الإجمالي العالمي عام 2013 إذا قيس الناتج بالدولار وفقًا لسعر الصرف السائد، وإلى نحو 16,6% فقط إذا قيس الناتج بالدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية، وما زال يدور عند هذا المستوى في الوقت الراهن.
وفي ظل هذا الوضع فإنّ احتفاظ الدولار بوضعية عملة الاحتياط الدولية هو «مسخرة وعبث» خارج عن أي منطق. ولأنه خارج المنطق، فإنّ الأصوات الفردية المطالبة بتعديل النظام النقدي الدولي وإنهاء وضعية الدولار كعملة احتياط دولية والتي ارتفعت منذ أكثر من 3 عقود، تحوّلت إلى مطالبات دولية بهذا التعديل منذ الأزمة المالية والاقتصادية الأمريكية عام 2008 والتي انتقلت لباقي اقتصادات العالم.
وبدأت عمليات التحوّل فعليًا باتفاق دول «الآسيان» على تسوية تعاملاتها التجارية البينية بعملاتها المحلية، واتفاق دول «بريكس» التي تملك أكثر من ربع الاقتصاد العالمي الحقيقي، على تسوية التعاملات بين دولها بعملاتها المحلية، واتفاق بعض الدول بشكل ثنائي على تسوية تعاملاتها بعملاتها المحلية. أما القشّة التي يمكن أن تقصم ظهر الدولار فسوف تكون حاضرة إذا أعلنت الدول المصدّرة للنفط عن تسعير نفطها بسلة عملات أو بوحدة مرجعية هي العملة الحسابية لصندوق النقد الدولي «وحدة حقوق السحب الخاصة» أو بعملة أخرى غير الدولار.
هل من خروج آمن للثروات العربية المستثمرة في أوعية دولارية؟
حفاظًا على الثروة والقدرة الشرائية الدولية للاحتياطيات العربية من العملات الحرة، فإنّ البنوك المركزية العربية والصناديق السيادية التي تستثمر أموالها في أوعية دولارية، مطالبة بدراسة «النظام» النقدي الدولي الراهن الفاسد كليًا، ومدى توافر القواعد الأساسية لعملة الاحتياط الدولية للدولار في الوقت الحالي، والميل التاريخي لحركة الدولار مقابل العملات الحرة الرئيسية، كي تتخذ القرارات الملائمة لحماية أصولها وفي مقدمتها التحوّل التدريجي عن الدولار كوعاء للاحتياطيات والأصول دون التسبب في انهيارات مفاجئة وكبيرة له تضرّ بتلك الأصول الدولارية إلى أن يتم تحويلها وتنويعها وتوظيف غالبيتها في استثمارات حقيقية في البلدان العربية، وهي معضلة فنية صعبة، لكنها ممكنة لمن يريد ويملك إرادته.
(خاص "عروبة 22")