بصمات

أنماط في أحوال أزمة الفكر والثقافة

سعيد علي نجدي

المشاركة

نحاول في هذا المقال ملاحظة بعض الأنماط التي تمارس في المجال الفكري والثقافي، خصوصًا أننا اليوم نعيش حالة من حالات التجزئة في الأنساق المجتمعية العربية، وما يرافقها من تعطيل للفعل السياسي المعلّق، أمام الحروب والأزمات وغياب الحريات والحقوق، وآخرها الحرب الإسرائيلية التي تشنّ إبادة موصوفة من القتل المفرط في عاديته، كل هذا يضعنا أمام تساؤلات في ظل غياب لنموذج عربي يحمل مشروعًا يستجيب للتحديات التي تمرّ بها المجتمعات، التي تشعر بالضعف في كل المجالات، بمعنى عدم تبلور حضورٍ للفعل، وهذا ما أدى إلى جمودٍ وتأبيدٍ للعصبيات والمكاسرات التي تنطلق من بداهات قياسية للفكر، وهذه الأزمة المسؤول عنها بالدرجة الأولى النُخب السياسية، لهذا فالسؤال: إلى أي حد طالت هذه الأزمة باقي المؤسسات التي تعمل على إعادة إنتاج المعنى والفكر؟.

أنماط في أحوال أزمة الفكر والثقافة

في هذا السياق، نقوم برصد آلية من التفكير عطلت إلى حد كبير كل ما من شأنه أن يؤدي إلى أي نوع من أنواع الإبداع، لأنها تُبقي التفكير بحالة الإتباع وإثبات ما يحمله كل واحد يمارس عملية المعرفة ونقلها والإشتغال عليها ولكن من مبدأ مكاسرة الآخرين وإظهارهم بمظهر الضعف أمام قوة وصحة الرؤية، وهذا ما نجده في المؤسسات الدينية إلى الآن، ولكن الإشكالية أنها تعدّت ذلك لتدخل حيّز المؤسسات الحديثة متل الجامعات، التي تتوزع منها خطابات الحقيقة الإيديولوجية الخلاصية، وكذلك نراها ماثلة في المجال الأدبي والفني، ذي الحكم المفهومي الجاهز.

معرفتُنا ذات طابع تلقيني تعليمي على طريقة "العالِم والغلام"

وهنا نكون أمام عقلية تتعدى المؤسسات، لأنّ المكاسرة خرجت من الطور التقليدي، لتدخل حيّز المؤسسات الحديثة التي تقوم بعملية الممارسة العلمية، وبالتالي المكاسرة تصبح من خلال المؤسسات الحديثة هي إعادة إنتاج العقلية السابقة ولكن بأدوات اشتغال حديثة فتغدو أكثر شرعيةً، عقلية تمارس عصبيتها بشكل حديث، أي بأدوات معرفية حديثة، وهذا ما درجت عليه نماذج القول المعرفي بتوكيد كلٍ منها بصحة منهجه وممارسة المكاسرة، أكثر مما هي عملية إشتغال بغية المعرفة بالمجتمعي.

عند هذا لا يعود التفكير حول طرح الإشكاليات الجديدة، أو محاولة طرح أسئلة مستجدة تخص النسق المجتمعي في ما يخص كل ما من شأنه التفكير حول المسائل الحرجة والجريئة، لأنّ معرفتنا ذات طابع تلقيني تعليمي على طريقة "العالِم والغلام".

ولهذا تصبح الغاية تنطلق من عقلية السلطة في ما يخص إمتلاك الحقيقة وكسر كل فهم آخر مغاير، وهنا تعود الذات أمام هيمنة التطابق، أي فاشية اللغة وأطر التفكير والحقيقة المنهجية والتملك، لذلك لا يكون التكفير كفعل إزاحة لكل مغايرة معينة في حدود التكفير الديني فقط، إنما أيضًا تعدى ذلك صوب طرق التفكير بشكل لا واعٍ ما يزال مترسخًا في بنى المعرفة الحديثة ومؤسساتها البحثية والتعليمية، وتحديدًا العلوم الانسانية الحديثة.

البداهة التي تتحوّل إلى خلاص

كل بداهة هي بلادة فكرية، من هنا تحوّلت النماذج الفكرية إلى بداهات، بوصفها مسلّمات عملت على تعطيل كافة أنواع التفكير بالمواضيع والتي من شأنها تدشين أسئلة راهنة تخصّ النسق الجديد الذي تنطلق منه كافة مستويات التفكير، وربما نحن بحاجة إلى نوع من أنواع تكسير البداهات، لنفهم ونعاين هذا الجمود والأطر المعرفية وأجهزته التي ينطلق منها النظر في شتى المواضيع.

إلى أي حد كانت ممارسة المعرفة العلمية متراسًا أيديولوجيًا في وجه الآخر لتكسيره وتحطيم ما يعتقده، بقدر ما هي وسيلة للفهم، وهنا نقف على عتبة العقل القياسي الإختزالي، الذي ينطلق من مسلّمات ليعممها على باقي المواضيع، إنطلاقًا من إطاره المرجعي للحكم الجاهز، وهذا القياس يريح أدوات التحليل للعقل، من أن يجرح ويلمس الأخطاء لأنه يستعين بعائلة الأفكار المسبقة التي تُشكّل له نوعًا من أنواع الألفة، أشبه بالعودة إلى ربعه أي أفكاره الثابتة القائمة على منوال أحادي.

الذوق الإسمنتي

وبالمقابل يخلق هكذا نوع من التفكير الجاهز لهذه العقلية القياسية، ثقافة إسمنتية (باطونية مسلّحة)، لأنها إنسداية، اسمنتها سميك يمنع من رؤية أي أفق آخر من التفكير، ويسد كل نوع من أنواع الاستعارات اللغوية المختلفة، بسبب الحاجب القوي الذي من شأنه تسكير كل المنافذ والدروب الأخرى للمعاني ذات الفهم المختلف، لذلك نرى الحدة أمام الاختلاف والتنوع، وبالتالي سرعة الحكم المعياري أمام كل مغاير، لأنها عقلية مطابقة ذات رؤية أحادية للعالم إنطلاقًا من مركزية الخطاب، ولأنها عقلية تخاف من الاختلاف.

في أحيان كثيرة يصبح المجال الثقافي فارغ المضمون يخلق عوارض المرض المجتمعي

وهذه العقلية وإن تقبّلت الآخر، فإنها تتقبّله وفق شروطها وعلى منوالها، وتظن أنها في حركة تقدّمية بشكل متوهّم وعندما تُحشر تستنفر أجهزة الإقصاء والتعسف، إلا أنّ تقدميتها هي تقدّمية مقلوبة، يكتسي فيها الأفراد طابع التطبّع، وعلى ذلك يصبح الذوق في ما يخص المجال الثقافي محشوًا بكثافة الخطاب الذي يحجب الرؤية بفعل الأسمنتية السميكة وإن اخذت في بعض الأحيان شكل العقلانية القشرية إلا أن المضمون عصبية لا واعية، وهكذا في أحيان كثيرة يصبح المجال الثقافي فارغ المضمون يخلق عوارض المرض المجتمعي لأنه متزمت لا يرى إلا نفسه، وسط ديكورات شكلية تكون أشبه بإبدال للغوايات البصرية التي تحجب المضمون المتكدّس بالاسمنت الذي بدوره يطفئ الإبداع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن