ثقافة

السينما التونسية.. قضايا المرأة "أعمق" بعيون المُخرجات!

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

يُجمع النقاد على أنّ حضور المرأة في السينما التونسية، التي يتجاوز عمرها المائة سنة، كبير ومؤثر رغم انضمامها المتأخّر نسبيًا لعالم الإخراج قياسًا بتقنين الدولة لحقوق المرأة مباشرةً بعد الاستقلال. فالمرأة لم تكن مادة مهمّشة في الأفلام أو جسدًا يستغل للتسويق والدعاية بقدر ما كانت قضية هامة للسينمائيين الرجال في مرحلة أولى، ورهانًا كبيرًا بالنسبة للسينمائيات النساء اللاتي نجحن في جعل المرأة حاضرة بقوة وكسرن الكثير من التابوهات في سبيل طرح مختلف قضاياها لا سيما تلك المسكوت عنها في أعمال أسالت الكثير من الحبر.

السينما التونسية.. قضايا المرأة

منذ اقتحام المخرجات للسينما في تونس حملن على عاتقهن مسؤولية أن تكون أفلامهن حاملة لهواجس وأفكار وأحلام التونسيات في مراحل وفترات زمنية مختلفة. ورغم وجود عدة أسماء، إلا أن السينمائيات الرائدات سلمى بكار ومفيدة التلاتلي، استطاعتا طيلة مسار فني كامل أن تغوصا في عمق مشاكل النساء بحرفية عالية جدًا لا سيما وأنهما متمكنتان من أدواتهما السينمائية التي اكتسبتاها من تكوينهما الأكاديمي في مدارس أوروبية وعملهما في الجانب التقني في أكثر من عمل سينمائي مع مخرجين رجال.

تلقب المخرجة مفيدة التلاتلي بـ"بمخرجة العوالم النسائية التونسية" و"سيدة السينما التونسية"، وهي حتما استحقت تلك التسميات مع أنها لم تخرج سوى ثلاثة أفلام كانوا كافين لجعلها أبرز المخرجات السينمائيات العرب. ورغم اقتحامها المبكر لعالم الفن السابع كمونتير مع عدة مخرجين تونسيين وعرب في أفلام حقق الكثير منها نجاحًا هامًا، إلا أنها لم تستعجل لتنتقل إلى كرسي الإخراج وتنجز فيلمها الطويل الأول "صمت القصور" الذي أثار جدلًا كبيرًا ويُعد من أهم الأعمال السينمائية العربية.

تطرّق الفيلم لقصة علياء، فتاة نشأت في قصور البايات، والدتها من خدم القصر ووالدها هو الأمير علي، وتكبر دون نسب لاستحالة نسبتها إلى والدها الحقيقي نظرًا للفوارق الاجتماعية بينهما فلا يمكن لابنة الخادمة أن تُنسب لأمير. والحقيقة أن مفيدة التلاتلي لم تحصر الفيلم حول الشخصية البطلة ووالديها بل استطاعت بحسّها الفني الرفيع والمرهف أن تنقل بعمق العالم الحميمي للنساء اللاتي جمعهن العمل داخل القصر وظروف عيشهن الصعبة، وأن تعكس بعمق مشاعرهن وتفاصيل حياتهن وانفعالاتهن وتوقهن لحياة أفضل وبحثهن عن حريتهن.

وفي فيلمها الثاني "موسم الرجال" سنة 2000، بدت مفيدة التلاتلي جريئة أكثر رغم أنه لم يصل إلى المستوى الفني والدرامي لـ"صمت القصور" الذي ظل أهم أعمالها. حيث طرح الفيلم حكاية نساء جزيرة "جربة" المهملات اللاتي يغادرهن أزواجهن للعمل في فرنسا والعاصمة ولا يسعهنّ سوى انتظار زياراتهم المتقطعة (شهر في السنة) في فترة "الموسم"، باستثناء عائشة التي قررت أن ترافق زوجها رفقة بنتيها وابنها.

في الفيلم ترصد التلاتلي يوميات النساء وقهرهن الصامت، وفي خضم كل هذا لم تشأ المخرجة أن تجعل من المرأة ضحية ومكسورة كما يذهب إلى ذلك المخرجون الرجال، إذ لم تتردد في أن تحشر المرأة في خانة الاتهام عندما تقبل بوضعها المهين واضطهادها، هذا طبعا دون أن تنسى أن تعري خضوع الرجل واستسلامه لسلطة العادات والتقاليد.

يقول أستاذ السينما والأدب الفرنسي الهادي خليل في كتابه "من مدونة السينما التونسية: رؤى وتحاليل" عن مفيدة التلاتلي "إنها عنصر أساسي في سينما المؤلف التواقة إلى نبرة خاصة بها وتوقيع منعتق من المسالك المعهودة، وهي فنانة مجذوبة بالصورة السينمائية تعرف كل متطلباتها وتتحمل كل عذاباتها، إن السينما التونسية مدينة بالكثير للنساء ولدقتهن الفنية".

أما المخرجة سلمى بكار ورغم أنها ركّزت في البداية على السير الذاتية لبعض النساء التونسيات على غرار فيلمها عن الفنانة حبيبة مسيكة بعنوان "رقصة النار"، إلا أنها كانت قد فعلت ذلك قصدًا ورغبةً منها في تصوير واقع المرأة التونسية في مرحلة زمنية بعينها وكيف يمكن أن يؤدي تحرّرها أو فنّها إلى قتلها على يد عشيق غيور.

كما أن سلمى بكار قد قررت منذ البداية أن تجعل الكاميرا سلاحا للتعبير عن قضايا المرأة، حتى أنها عندما أخرجت فليلمها الأول "فاطمة 75"، والذي سيتحول لأحد أهم أعمال السينما التونسية، قامت بإبراز التناقض بين القوانين والإجراءات التي أرستها دولة الاستقلال لفائدة المرأة وواقع المرأة على الأرض خاصة في الأرياف وفي الطبقات الشعبية. وقد كلفت هذه القراء سلمى بكار منع عرض فيلمها لعدة سنوات رغم أن المنع لم يحُل دون مشاهدة الفيلم وعرضه في تظاهرات السينمائيين الهواة ونوادي السينما وتحوّله في فترة ما للفيلم الأكثر مشاهدة في تونس.

وتقول سلمى بكار لـ"عروبة 22": "عندما أخرجتُ فيلمي الوثائقي - الروائي الطويل الأول "فاطمة 75"، وكأني أردت بناء ركائز البيت الفني الذي سألازم فيه العمل، وقد حاولت فيه الإجابة عن عدة أسئلة في علاقة المرأة التونسية بتاريخها وتطور موقعها ومكاسبها في المجتمع. ونظرًا لتأثري بالمنع الذي طال الفيلم توجّهت للمشاركة في عدة أعمال سينمائية كمساعدة مخرجة وكمنتجة منفذة أيضًا، كما انغمست في الإعداد لفيلم "حبيبة مسيكة" الذي تطلّب الكثير من الوقت لا سيما أنني كنت مهتمة بحياتها أكثر من مماتها فقد كانت امرأة استثنائية في جرأتها، هذا فضلًا عن اهتمامي بحقبة الثلاثينات التي كنت أرغب في نقل بعض تفاصيلها".

وتضيف: "في فيلم "خشخاش" انتقلت إلى حقبة زمنية أخرى وهي الأربعينات ووجهت اهتمامي إلى علاقة المرأة بجسدها فضلًا عن المثلية الجنسية الذكورية. وقد صدم الفيلم عديد التونسيين رغم أنّ معالجته مقبولة إذ لم يكن هناك مشاهد جنسية أو ما شابه، فأنا أؤمن بأنّ طريق المرأة التونسية صعب وهي غاليًا مظلومة أو مهضومة الحقوق لكن ما يميّزها أنها دائمًا ما تنتصر على العادات والتقاليد. ولهذا عندما اخترت أن أنهي فيلم "خشخاش" ببقاء البطلة في مستشفى الأمراض النفسية لم يكن عبثًا فهي كما قالت لابنتها قد عثرت على ضالتها وحرّيتها في المستشفى وباتت تشعر كأنها نسمة طليقة. أي أنّ المرأة استطاعت التغلّب على ضغوط وقيود المجتمع حتى وإن كان ذلك داخل مستشفى المجانين".

الجيل الجديد.. كوثر بن هنية نموذجًا

وإذا كانت مفيدة التلاتلي وسلمى بكار وبقية المخرجات والمخرجين من الجيل الأول للسينما التونسية قد حاولوا كسر القيود وطرح قضايا جريئة في فترات لم يكن فيها المجتمع مهيئًا لذلك، فإنّ الجيل الجديد خاصة من المخرجات التونسيات قد استفاد من مناخ الحريات وانفتاح المجتمع. فكانت خياراتهن السينمائية مختلفة، وإن كان لا بد من الإقرار بأن الجيل الاول قد وضع الأسس وفتح الطريق أمامهن.

انخرط الجيل الجديد من السينمائيات في قضايا أكثر شمولية، كالقضايا السياسية والاقتصادية، وحتى عندما تناولن قضايا المرأة لم يكتفين بطرح المشكل بل ركّزن على الحلول أيضًا عبر انتقاد الواقع والدفع لتغييره أو تسليط الضوء على منجزات النساء الكبرى في عملية التغيير والنجاح وإبرازها، وهذا كان حال عدة مخرجات شابات على غرار شيراز البوزيدي وسنية الشامخي وغيرهن... وإن كانت المخرجة  كوثر بن هنية قد استطاعت أن تسرق الأضواء وتكون لها بصمتها الفنية الخاصة مبكرًا في عدد من الأعمال الفنية والتي كان آخرها فيلم "بنات ألفة" وهو من تأليفها وإخراجه ويحصد جوائز دولية منذ بداية عرضه.

وهو فيلم مستوحى من قصة حقيقية لسيدة اسمها ألفة لديها أربع بنات، انضمت ابنتاها المراهقتان إلى صفوف تنظيم "داعش" الإرهابي في ليبيا فقررت خوض رحلة من أجل استرجاعِهما. ويبيّن الفيلم كيف تساهم الظروف الاجتماعية والنفسية في الوصول إلى هذه المصائر الخطيرة، ويسلّط الضوء على مسار العلاقة بين ألفة وبناتها قبل الثورة وبعدها. وقد قدّمت بن هنية الفيلم بطريقة جمعت بين الوثائقي والدرامي.

وشارك الفيلم في "مهرجان كان" السينمائي لعام 2023 (وهو الفيلم الأول للمخرجة الذي يشارك في مهرجان كان) وحصد العديد من الجوائز منها جائزة "العين الذهبية" التي تذهب للأفلام الوثائقية، وجائزة "السينما الإيجابية" التي تُمنح للفيلم الطويل الأكثر إيجابية في قائمة الأفلام المرشحة في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، كما حصل على تنويه خاص من لجنة الناقد فرنسوا شالي والتي تقدّمها جمعية فرنسوا شالي على هامش مهرجان كان. وفاز الفيلم بجائزة غوثام كأفضل فيلم وثائقي في المسابقة السنوية المخصصة للسينما المستقلة، ونجح في العبور إلى المرحلة النهائية المختصرة من ترشيحات جوائز الأوسكار العالمية في دورتها السادسة والتسعين ضمن فئتي أفضل فيلم دولي وأفضل فيلم وثائقي. وهو العمل الوحيد الذي يُمثّل السينما العربية في هذه التظاهرة العالمية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن