وجهات نظر

من غزّة إلى رفح.. وحدود الأمن القومي المصري

تتعالى أصوات مصر الرسمية رافضةً ومحذرةً من الهجوم الوحشي الوشيك على مدينة رفح الفلسطينية المتاخمة للحدود المصرية. يبدو أنّ الاستيقاظ المصري جاء متأخرًا، والشعور بالخطر على الأمن القومي حضر بعدما أمسكت النار بجدار البيت، فالقاهرة التي تبدو صامتة بأكثر مما ينبغي، ومتحفظة بما لا يناسب المكانة والدور، تأخرت كثيرًا في فهم التحركات الصهيونية الرامية لإلقاء الفلسطينيين في جوف المصريين.

من غزّة إلى رفح.. وحدود الأمن القومي المصري

الحديث عن الأمن القومي الآن بات خطابًا رسميًا تتبناه الدولة المصرية، وتحذر من التعرض له، وتكرره وسائل الإعلام المحسوبة عليها، لكن هل يعكس هذا الخطاب واقعًا على الأرض، أم كغيره من الخطابات المراد بها تسجيل مواقف أمام الرأي العام الداخلي بلا أي ظل من رؤية تتناسب مع ما يجري من إبادة منظمة لأهالي قطاع غزّة الذي كان يخضع للإشراف المصري يومًا؟ هل تعي حكومة القاهرة حدود أمنها القومي حقيقةً بعد أن تراجع لخط رفح الفلسطينية؟.

على مدار عقود فرّط النظام المصري في أوراق اللعبة، رهن أمنه وقراره بالمصالح الأمريكية الإسرائيلية؛ ففقد البوصلة ووضع العدو ومكمن الخطر على أمن مصر في خانة الصديق الوفي وموجّه الدفة، وترك الفساد يستشري في بنية المجتمع فدمّره وألقى به في هوة الفقر والعوز، فأضعف المناعة الذاتية للجبهة الداخلية، وصولًا للمشهد الحالي الذي نرى فيه "لا استراتيجية" مصرية بالتوازي مع مخاطر جيوسياسية تحيط بأكبر دولة عربية سكانًا إحاطة السوار بالمعصم.

منطق الأمن القومي يتم التعامل معه من قبل بعض رجال الدولة المصرية تحت خانة الربح الشخصي

القاهرة المنكفئة نسيت أو تناست حدود أمنها القومي، الذي لم يتقهقر إلى هذا الحد في تاريخها الطويل باستثناء فترات الاحتلال الأجنبي، فنظرية الأمن القومي تستند دومًا إلى حقائق الجغرافيا ووقائع التاريخ، بهدف تأمين الحدود وفهم التأثيرات الإقليمية المنذرة بخطر جسيم على صلب الدولة المصرية، لذا كانت رفح مرحلة أولية من مراحل تأمين الأمن القومي، لا نقطة نهايته كما نشاهد الآن، ليس غريبًا أنّ معظم معارك مصر التاريخية كانت في الشام من تحتمس الثالث إلى محمد علي.

منذ حوالى خمسة آلاف سنة والتاريخ ينفق دروسه ببذخ والجغرافيا تمنح نصائحها بلا كلل لتعليم المصريين حدود أمنهم القومي، كانت الشام وبلاد السودان وليبيا الدائرة التي لم تستغنِ عنها مصر لأمنها، ومع التحوّل العربي أصبحت الدائرة أوسع، ترسّخت مع تجارب الفاطميين والأيوبيين والمماليك ومحمد علي وجمال عبد الناصر، مع الأخذ في الاعتبار تطوّر العلاقات السياسية بين الشعوب والأمم في عصر الدولة الحديثة وبناء مفهوم الأمن العربي الجماعي، لكن الوصول إلى هذا الحد المشاهَد الآن من الانكفاء والتمسّك بخط الحدود الوهمي كتعريف للأمن القومي كان علامة مرض أصيل تسرّب إلى المركز!.

فمصر في وضعها الطبيعي لم تكن لتسمح باستباحة سوريا بهذا الشكل الذي عشناه في عشرية دمّرت قلب الشام، ولا كان لها أن تشاهد زحف المشروع الصهيوني الرامي لتغيير التركيبة الديموغرافية لفلسطين المحتلة بسلاح المستوطنات السرطاني، ولا بطبيعة الحال أن تتابع في صمت تقدّم قوات الاحتلال وهي تقتل وتبيد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة؛ ذلك الشريط الفلسطيني الضيق الذي يُعتبر بأي فهم سياسي مبتدئ خط الدفاع الأول عن أمن مصر القومي، وشوكة في حلق الاحتلال لصالح القاهرة، لذا لم يكن غريبًا أن تسكت القاهرة عن تكدس نحو 1.5 مليون فلسطيني في رفح على الحدود، نتيجة عمليات التهجير القسري.

إنّ عطالة مصر الاستراتيجية كاشفة هنا، ونحن نتابع ما يتردد في عدد من الصحف الأجنبية والمصرية المستقلة عن بيزنس "المنسقين" لإخراج أهالي غزّة الراغبين في الخروج منها، بما في ذلك حملة الجوازات المصرية، مقابل الحصول على أموال تُدفع بالدولار، أي أنّ منطق الأمن القومي يتم التعامل معه من قبل بعض رجال الدولة المصرية تحت خانة الربح الشخصي، ما يكشف عن عمق الفساد وغياب الرؤية الاستراتيجية في الآن ذاته.

تراجع خط الأمن القومي المصري من جبال طوروس إلى حدود رفح الفلسطينية كنتيجة لمسار التخلي عن الدور والمكانة

تأخرت مصر جدًا في قراءة التحركات الإسرائيلية الرامية لتهجير أهالي غزة قسريًا وإجبارهم على اختراق الحدود المصرية، لأنها غيّبت نفسها عن الملفات العربية منذ عقود اختياريًا؛ أم نقول "انتحاريًا"؟، لذا لم يكن صعبًا أن تواجه القاهرة مأزقًا شديد الخطورة وهي تتابع الآن الخطر وقد بات على أعتاب المنزل.

لكن أليس في هذا الدليل الكافي على خطأ سياسات القاهرة الإقليمية التي راهنت على عقود من الانكفاء وترك المنطقة العربية لمصيرها على موائد النهب الاستعماري الجديد؟.. إنّ مصر الآن تحصد نتيجة ما زرعته في العقود الأخيرة، وما تخلّت عنه طواعيًا من أدوات للفعل، لذا تراجع خط الأمن القومي من جبال طوروس إلى حدود مدينة رفح الفلسطينية كنتيجة طبيعية لمسار التخلي عن الدور والمكانة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن