وجهات نظر

المأزق المصري في حرب غزّة!

مصر في عين الإعصار لا على هامش الحوادث الدامية.. هذه حقيقية لا يصح تجاهلها بالإنكار. لا تؤسس المراوحة في المواقف بين الفعل وعكسه لتأثير حقيقي في درء المخاطر المحدقة.

المأزق المصري في حرب غزّة!

القضية ليست أن تنتقد المواقف المصرية بحرب غزّة، أو أن تنتحل لها الأعذار في إدارتها للأزمة المستفحلة على حدودها المباشرة. القضية أن تتسق سياساتها مع أمنها القومي ومصالحها العليا، التي لا ينبغي التهاون فيها، أو إنكار خطورتها على مستقبلها لآماد طويلة.

نقد الأداء المصري، حتى لو اشتطت عباراته، نوع من "عتب المحبين" على أكبر دولة عربية خشية أن تنزلق إلى حيث لا يجب أن تقف.

بقوة الحقائق كان الموقف المصري صريحًا وحاسمًا في رفض التهجير القسري من غزّة إلى سيناء، وقد انتهج الأردن موقفًا مماثلًا خشية تهجير قسري آخر من الضفة الغربية إلى الضفة الأخرى.

قد تكون مصر مدعوة للحرب دفاعًا عن ترابها الوطني

في اللحظة نفسها طرحت فكرة لم يكن لها داعٍ، ولا هو مطلوب منا أن نُقدّم مقترحات للمحتل الإسرائيلي، بنقل أهالي غزّة إلى صحراء النقب حتى تنتهي دولة الاحتلال من مهمتها!!.

نالت تلك التصريحات من حق الفلسطينيين في المقاومة والبقاء فوق أراضيهم، مهما كانت التضحيات، كما نالت بالقدر نفسه من مصر وصورتها وحقيقة التزامها بالقضية نفسها.

المراجعة ضرورية لضبط التصريحات والمواقف.

قبل أن نلوم الآخرين علينا أن نلوم أنفسنا، وننتقد السياسات التي أفضت بالتراكم إلى تفاقم الشكوك والظنون.

أعطى رفض التهجير القسري رسالة ملهمة للشارع العربي أنّ مصر يمكن أن تعود لتتصدر قيادة المنطقة، فيما أعطى اقتراح النقب رسالة عكسية وضعت السياسات المصرية موضع تساؤل إذا ما كانت تدرك قيمة البلد الذي تنتسب إليه.

ننسى أحيانًا بالتجاهل، أو بالتجهيل، أنّ القضية الفلسطينية، ولا قضية أخرى غيرها، مقياس الأوزان والأدوار وشرعية النظم في المنطقة على مدى ستة وسبعين عامًا.

بقوة المخاطر الماثلة: إذا ما هُزمت المقاومة الفلسطينية في غزّة وتمكنت إسرائيل من تقويض القضية بنكبة ثانية فإنه سوف تلحق بمصر هزيمة استراتيجية مماثلة.

لم تكن مصادفة أن تكون المقاومة الفلسطينية، بما ألحقته بالجيش الإسرائيلي من خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، خط الدفاع الأول عن سيناء حيث عطلت مشروع التهجير.

أمام التحديات الوجودية لا تصح ولا تجوز أنصاف المواقف.

تحتاج مصر أن تتحدث بخشونة، لا أن تكرر العبارات النمطية المعتادة التي يتداولها وزراء خارجية الدول الأوروبية دون تغيير على الأرض، أو في موازين القوى السياسية.

الدعوة إلى وقف إطلاق النار وسرعة إدخال المساعدات الإنسانية والتحذير من مجزرة أبشع وأفدح بنحو (1.4) مليون نازح فلسطيني لجأوا إلى رفح الفلسطينية مطالب صحيحة، لكنها تقصر بذاتها أن تمثّل سياسة متماسكة وفعالة.

على هذا النحو النمطي والمعتاد تحدث وزير الخارجية سامح شكري في مؤتمر ميونيخ للأمن (2024).

إذا لم يكن هناك رد فعل معلن، قوي ورادع، لأي اجتياح محتمل لرفح فإنه قد يظن أنّ مصر تواطأت على الدم الفلسطيني.

لسنا في موقع ضعف وإسرائيل ليست في موقع قوة.

رغم الظروف الاقتصادية القاسية التي تمر بها مصر الآن فإنها قد تكون مدعوة للحرب دفاعًا عن ترابها الوطني في سيناء، فمن العار أن تستباح دون طلقة رصاص واحدة.

إذا كان هناك من يريد تجنب اتساع المواجهات العسكرية في الإقليم، أو أية حرب محتملة مع مصر، التي تملك أقوى الجيوش في المنطقة حسب التقارير الدولية، فإنه لا بد من وقف إطلاق النار في غزّة فورًا وعدم ارتكاب جرائم إبادة جماعية جديدة في رفح الفلسطينية ووقف مشروع التهجير القسري للأبد.

لا أحد في العالم مستعد أن يتقبل مثل هذا السيناريو، أولهم إسرائيل نفسها.

لقد أسست اتفاقية "كامب ديفيد" للتراجع الفادح في الأدوار والأوزان المصرية بأكثر أقاليم العالم أهميةً وتأثيرًا، غير أنه بالمقابل نشأت مقاومة شعبية ترفض التطبيع وتفرض ما يُطلق عليه "السلام البارد".

تسرّب بما هو مؤكد أنّ مصر لوّحت باستعدادها لتعليق اتفاقية "كامب ديفيد" إذا مضت إسرائيل في مشروع التهجير، لكنه بعد أيام قليلة صرح وزير خارجيتها.. "إننا متمسكون بها"!

المراوحة بين الموقف وعكسه تهزّ ثقة البلد في قدرته على التصدي بالجدية اللازمة لأخطر قضايا أمنه القومي.

العواقب سوف تكون وخيمة إذا لم تضبط مصر بوصلتها في حرب غزّة على أمنها القومي

ما حقيقة المنطقة العازلة على الحدود المصرية مع قطاع غزّة؟

كان ذلك سؤالًا بالغ الحساسية طرحته كبريات الصحف ووكالات الأنباء الدولية مستندة إلى صور حديثة التقطتها الأقمار الاصطناعية. أكدت أنها من ضمن الاستعداد لقبول لاجئين فلسطينيين إذا ما جرى نزوحًا بمئات الآلاف بعد اجتياح رفح.

نفت جهات رسمية عديدة، ووزير الخارجية نفسه، أن يكون هناك تخطيط لقبول لاجئين فلسطينيين.

يبدو ذلك مفهومًا في ضوء حقيقتين؛ الأولى: رفض التوطين في سيناء، أو المساس بالسيادة عليها؛ والثانية: رفض الفلسطينيين أنفسهم لمثل هذا السيناريو خشية تكرار مشاهد نكبة (1948).

ما هو غير مفهوم أن يقول الوزير المصري في التصريح نفسه: "الحديث عن منطقة عازلة مجرد افتراض ونحن نقوم بعملية صيانة".

هكذا تذهب مرة بعد أخرى السياسات والمواقف إلى الشيء وعكسه، من رفض التهجير إلى الإقرار بوجود منطقة عازلة تحتاج إلى صيانة!

متى أُنشئت المنطقة العازلة؟!

ما مبررات إنشائها؟!

فيمَ الصيانة بالضبط؟!

هذه الأسئلة تطرحها تلك التصريحات المضطربة.

بدا أنه قد فوجئ بما نُشر دون أن تكون لديه معلومات مدققة عن الملف الملغم.

إذا لم تضبط مصر بوصلتها في حرب غزّة على أمنها القومي، الذي يدخل فيه بالمقام الأول الالتزام الصارم بالقضية الفلسطينية، فإنّ العواقب سوف تكون وخيمة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن