الحقيقة، أنه ليس في إمكاننا، بعدُ، التميّز بمقومات الهوية والاستقلالية والخصوصية، والتحرّر من التبعية الغربية في هذا الميدان. وهذا الأمر ينسحب على مختلف الجهود التي بُذلت من أجل التحديث والتقدم التقني، سواء في قطاع الصناعة بصفة عامة، أو القطاعات الأخرى كالزراعة والتعليم والتدريب والصحة والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وغيرها...
وحتى العقول العربية الفردية التي تميّزت وأبدعت في المجالات المذكورة، معظمها، إن لم يكن كلّها، تميّز أو أضاف للعلم والتكنولوجيا، من خلال أنظمة الغرب العلمية والتقنية وتصوراته الفكرية، وبيئته المجتمعية الجاذبة، خلافًا لبيئتنا العربية الطاردة، إلى حد كبير.
نحتاج أن نوحّد المساعي العربية في توطين قوة العصر التنموية وهي حصرًا "تكنولوجيا البرمجيات"
في المقابل، لا يُنكر أنّ هناك جوانبَ أخرى مضيئة في جهود النهضة العربية عمومًا، والتي انطلقت وانتشرت في العالم العربي شرقًا وغربًا لأكثر من قرنين ماضيين؛ ليس أقلها انبعاث الشعور القومي الموحّد، ومقاومة الاستعمار الأجنبي، والاهتمام الكبير بنشر التراث، وانتشار اللغة الفصيحة بأسلوب العصر، غير مثقلة بالمحسنات البديعية والحشو والإطناب، على عهدها الموروث. كذلك، التجارب المتراكمة في الميادين المدنية المتنوعة والعسكرية لها إيجابياتها بصورة ما، وتحسب ضمن مخزون التجربة والممارسة.
ولكن مع هذا كلّه، وصلنا اليوم إلى عصر ليس فيه رجوع إلى الوراء، ولا يسمح للشعوب بالانطواء، عصر الضرورة التكنولوجية المعلوماتية، والشبكات الكونية... وستزداد الهوة بيننا وبينه اتساعًا، باستمرار، إن لم نلحق به سريعًا، ونحمي أنفسنا وجودًا وهوية.. خاصة ونحن، مبدئيًا، نمتلك الإمكانيات الأساسية للنهوض المطلوب، مادية وبشرية، والتي أصبحت لا تخفى على أحد.. فقط نحتاج أن نشحذ الهمم، ونوحّد المساعي في توطين قوة العصر التنموية، وهي حصرًا "تكنولوجيا البرمجيات".
هل ما يجري عندنا من مشاريعها المختلفة، هو فعلًا توطين لها؟ (كما تساءلنا، آنفًا) لننظر، سريعًا، إلى بعض ما وصلنا إليه...
يمكن القول، إنّ غالبية الدول العربية تتبنى اليوم، عملية التحوّل الذكي وخوض غمار المنافسة العالمية في المجال، بشكل أو بآخر... مثلًا، في ليبيا، تأسست في السنوات الأخيرة العديد من الشركات والمؤسسات المتخصصة في تقديم الحلول البرمجية المتقدمة؛ منها تطوير أنظمة المشاريع الشبكية، والتطبيقات الذكية، والبرامج السحابية في شتى المجالات الإدارية والفنية؛ ضمن إطلاق مشاريع التحوّل الرقمي المختلفة، وهي جميعًا تحاول جاهدة للانتقال بأعمال المؤسسات العامة والخاصة من النظام الورقي إلى النظام الإلكتروني الشبكي. وهناك تجارب مماثلة في بلدان المغرب العربي الأخرى، وهي كغيرها من البلدان العربية، ركزت على تفعيل مشاريع التكنولوجيا المعلوماتية في مختلف قطاعات الاقتصاد المحلي لبلدانها من خلال المنتجات المعلوماتية المستوردة، من عتاد، وبرمجيات، ونظم تطوير، وأدوات تنفيذ. دون اعتماد كبير على الذات...
نحو 100 شركة برمجيات في 12 دولة عربية استطاعت أن تجتاز التقييم النهائي لشهادة الاعتمادية
مع ذلك، تبقى الآمال معقودة على تنفيذ استراتيجيات التنمية المستقبلية في بلدان المغرب العربي، إذا ما توفرت لها سبل وعوامل تنفيذها، خاصة وأنّ بها جوانب بارزة تهتم بقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومشاركة الموارد البشرية في منتجاته وخدماته المحلية، على سبيل المثال لا الحصر: "الخطة الإستراتيجية حول رؤية ليبيا 2030"؛ و"الإستراتيجية الوطنية المندمجة للشباب، 2015-2030"، في المغرب. و"خطة التعاون الاستراتيجي بين الجزائر والصين 2022-2026"، في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والطاقة، وغيرها...
إلى جانب أنّ هناك بعض التجارب العربية تسير في طريق النجاح المنشود في صناعة البرمجيات، وتشجع على خوض مزيد من التجربة الجادة. من ضمن الأمثلة، أنه منذ بضع سنوات ماضية، نحو 100 شركة برمجيات في 12 دولة عربية، استطاعت أن تجتاز التقييم النهائي لشهادة الاعتمادية CMMI - من تطوير معهد هندسة البرمجيات الأمريكي التابع لجامعة كارنيغي ميلون - لتحسين الإجراءات ونضوج القدرة والفعالية في إنتاج البرمجيات؛ وهي: "مصر والأردن والسعودية والإمارات وسوريا ولبنان والكويت والمغرب وقطر والبحرين وعمان وتونس".
تتصدر مصر القائمة: 50 شركة؛ ثم الأردن: 10 شركات؛ ثم السعودية والإمارات: 8 شركات؛ ثم سوريا: 4 شركات؛ ثم الكويت ولبنان 3 شركات؛ ثم المغرب وقطر: شركتان؛ وأخيرًا البحرين وعُمان وتونس: شركة واحدة في كل منها.
ويوجد بمصر "مركز تقييم واعتماد هندسة البرمجيات SECC"، التابع لهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (إيتيدا)، والذي يساعد في الحصول على شهادة الاعتمادية المشار إليها، كما يصدر شهادة نموذج الجودة SPIG، المعتمد من شركات أجنبية صينية، وغيرها. كل هذا في إطار الدعم الحكومي الكبير بمصر لاعتماد صناعة البرمجيات كإحدى الصناعات الإستراتيجية المساهمة في الاقتصاد الوطني، والتي يتوقع لها أن تصل إلى قيمة إجمالية بـ 10 مليارات دولار خلال الفترة المقبلة قبل حلول عام 2025.
ومن المؤشرات المهمة لسنة 2023، يُقدّر إنفاق "الشرق الأوسط" و"شمال أفريقيا" على صناعة البرمجيات، بـ 175.5 مليار دولار تقريبًا، ليتخطى إنفاق سنة 2022 البالغ 171,9 مليار دولار، بحسب تقديرات شركة الاستشارات الإدارية "جانتر".
وفي مصر تحديدًا - وفق إحصائيات أخيرة - ارتفعت صادراتها من البرمجيات والتكنولوجيا المصاحبة إلى 7.8 مليار دولار، بما يُمثّل 1.6% من حجم صناعة البرمجيات عالميًا. على أمل أن يصل نصيب مصر من هذه السوق إلى 5% في هذا العام 2024، ليصل إلى 25 مليار دولار. بينما في الإمارات، وصل حجم سوق قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات إلى 62.4 مليار درهم، ما يعادل 17 مليار دولار. وفي السعودية تجاوز حجم القطاع 45 مليار ريال، ما يعادل 12.1 مليار دولار في سنة 2021. كذلك الأردن، حقق خطوات ثابتة نسبيًا في المجال.
جهود فردية للمبرمجين والخبراء العرب أما الشركات العامة فهي ليست في مستويات الأداء والجودة المطلوبة
على أية حال، بالرغم من وجود عشرات بل مئات الشركات العربية في قطاع صناعة البرمجيات في مختلف الدول العربية دون استثناء، وانتشار أعداد كبيرة من المبرمجين في هذه الدول، فالأمر، بحسب آراء كثير من الخبراء العرب المختصين في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إن كان هناك نصيب حقيقي من النجاح يمكن ذكره في قطاع البرمجيات، فهو يعزى للجهود الفردية الخاصة، للمبرمجين والخبراء العرب المحترفين! ومنهم أصحاب شركات تطوير خاصة، أما الشركات العامة والمؤسسات الحكومية والمنظمات المعتمدة على دعم الدولة، فهي ليست في مستويات الأداء والجودة المطلوبة. ولكن، يظل المبرمج العربي المستقل أو المرتبط بأعمال ومؤسسات حكومية، يعمل بواسطة التقنيات الأجنبية المستوردة بنسبة عالية جدًا، ولم يزل في دائرة المنتج التكنولوجي الغربي، سواء في المعايير الفنية، والضوابط الإجرائية، أو المنصات البرمجية المستخدمة، أو الأجهزة والنظم والأساليب والمواصفات، ولغات البرمجة، والملحقات التقنية المتنوعة...
وبذا، فدرجة الاستقلالية والابتكار ضعيفة جدًا، والوضع الراهن لقطاع صناعة البرمجيات لا يسمح بالقول بصناعة برمجيات عربية حقيقية، تلبي متطلبات التنمية الشاملة والتقدم الحضاري العربي المنشود. الأمر الذي يتطلب الإجابة عن سؤالنا الثاني المشار إليه أعلاه.
في المقالة القادمة، إن شاء الله.
(خاص "عروبة 22")