لا يتعلّق الأمر هنا فقط بالشراكة الفجة للولايات المتحدة في حرب الإبادة التي يشنها العدو الصهيوني ضد غزّة، ولكن لأنّ سجل الرئيس الكهل قبل هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول يؤكد أنّ إحياء مسار التفاوض بين فلسطين والكيان المحتل لم يُمثّل له أولوية على الإطلاق، مقابل رغبته في التركيز على الملفات الداخلية ومواجهة الصين وروسيا على الصعيد الخارجي.
بل إنه وبعد أقل من عامين من توليه منصبه، انتهى الأمر به إلى تطبيق سياسة سلفه وخصمه اللدود دونالد ترامب نفسها، والتي ركّزت على تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل بغض النظر عن إنهاء الاحتلال لأراضي فلسطين وتطبيق المبدأ الرئيسي في معاهدة السلام العربية للعام 2002 التي أعلنت من بيروت "الأرض مقابل السلام".
تلويح بايدن مؤخرًا برغبته في إنشاء دولة فلسطينية يأتي ضمن أوراق الضغط في مواجهة مواقف نتنياهو المتحجّرة
ويكرر بايدن زعمه أنّ أحد أسباب هجوم "حماس" الأخير بدعم من إيران هو رغبتهما في إجهاض اتفاق تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل والذي كان في شوطه الأخير، حسب تصريحات المسؤولين في إدارته.
كما لم تتخذ إدارة بايدن خطوة واحدة نحو إلغاء الخطوات المنفردة المخالفة للقانون الدولي التي اتخذها ترامب وأهمها الاعتراف بالقدس المحتلة "عاصمة أبدية موحّدة" لإسرائيل، وإغلاق مقر القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، والاعتراف بضم الجولان السوري المحتل، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن واعتبار دبلوماسييها أعضاء في منظمة إرهابية، والموافقة على تصدير منتجات المستوطنات بالضفة الغربية المحتلة إلى الولايات المتحدة بزعم أنها "لا تخالف بالضرورة القانون الدولي".
وكان لافتًا أيضًا أنه على الرغم من وقوع عدة جولات من المواجهات العسكرية بين حركات المقاومة الفلسطينية في غزّة وجيش الاحتلال منذ وصول بايدن لمنصبه مطلع العام 2021، فإنّ الرئيس الأمريكي لم يُجرِ اتصالًا هاتفيًا واحدًا مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس حتى وقوع "طوفان الأقصى"، كما لم يقم بدعوته لزيارة البيت الأبيض.
غالبًا تلويح بايدن المتكرر مؤخرًا برغبته في تحقيق هدف إنشاء دولة فلسطينية، وما نشرته صحيفة "واشنطن بوست" عن خطة أمريكية-عربية لإعلان جدول زمني لتحقيق هذا الهدف، يأتي ضمن أوراق الضغط التي يسعى لاستخدامها في مواجهة المواقف المتحجّرة لرئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو والتي بلغت حد الإهانة الشخصية للرئيس الأمريكي مع التجاهل المتكرر لتنفيذ مطالبه، بدايةً بإبداء المرونة للتوصل لاتفاق مؤقت لوقف إطلاق النار، ونهايةً بالمطالب الإنسانية البسيطة مثل فتح المعابر لدخول شاحنات المساعدات الإنسانية.
ولكن هذا لا يعني أن تسعى الحكومات العربية إلى الاستفادة من هذا الموقف الرسمي الأمريكي، وكذلك دفع إدارة بايدن حلفاءها التابعين مثل وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون إلى التصريح أنّ بلاده تنظر بدورها في الاعتراف بالدولة الفلسطينية قبل انطلاق مفاوضات سلام مزعومة ستلي انتهاء الحرب في غزّة، ولو من باب تطبيق المثل المصري الشهير "خلّيك ورا الكذاب لحد باب الدار".
أحد السيناريوهات التي يجري تداولها في واشنطن الآن هي ألا تعترف الإدارة الأمريكية مباشرة بدولة فلسطين خشية تأثير ذلك على حظوظ بايدن في الانتخابات الرئاسية الصعبة المقبلة في مواجهة ترامب، ولكن ألا تستخدم الولايات المتحدة حق النقض الفيتو عند طرح قرار الاعتراف بدولة فلسطين على مجلس الأمن وأن تكتفي بالامتناع عن التصويت.
ورغم تصريح بايدن بأنّ الدولة الفلسطينية التي يدعو لها يجب أن تكون منزوعة السلاح، وهو ما ينطوي على انتقاص واضح لسيادة تلك الدولة وحقوقها، ومن دون توضيح حدود تلك الدولة والتأكيد على ضرورة الانسحاب من كل الأراضي التي تم احتلالها عام 1967، فإنّ أنصار دفع الإدارة الحالية لتنفيذ وعدها يشيرون إلى أنّ مجلس الأمن أقر إعلان دولة الكيان الصهيوني عام 1948 من دون أي يكون لها حدود نهائية معترف بها حتى الآن.
الاعتراف بدولة فلسطين سيمثّل نقلة غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني لا يمكن التراجع عنها
ولكن يبقى أنّ الاعتراف بدولة فلسطين، وهو الأهم، سيمثّل نقلة غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني لا يمكن التراجع عنها، وسيجعل التعامل على قيد المساواة بين دولتين مستقلّتين باعتراف دولي، بدلًا من أن يكون التعامل بين دول محتلة وشعب خاضع للاحتلال. وهناك العديد من المعاهدات الدولية التي ستتمكن دولة فلسطين من استخدامها حال إقرارها من الأمم المتحدة في مواجهة الكيان الصهيوني باعتبارها دولة تواجه عدوانًا من دولة أخرى، وهو الأمر الذي يبقى غير ممكن الآن في ضوء أنّ فلسطين تتمتع فقط بصفة "المراقب" في المنظمة الدولية.
وبينما تعترف غالبية دول العالم الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة بدولة فلسطين (138 من بين 193)، فإنّ الضوء الأخضر الأمريكي سيعني زيادة ذلك العدد، أساسًا بين الدول الأوروبية التي لم تكن لتتحرك في ذلك الاتجاه من دون موافقة واشنطن.
يرفض نتنياهو بشراسة التصريحات الأمريكية الأخيرة بشأن السعي لإقامة دولة فلسطين ويرى أنّ ذلك سيُمثّل مكافأة لـ"حماس" وفصائل المقاومة، ولكن حتى لو نفذ بايدن تصريحاته بالسعي لإنشاء دولة فلسطين، فإنّ الجميع يعرف أنّ تلك ستكون خطوة أولى يجب أن تليها خطوات أخرى عديدة حتى تتحوّل إلى واقع قائم يتمتع فيه الفلسطينيون بالاستقلال الحقيقي. غير أنها ستبقى خطوة إيجابية لو تحققت، ويجب الدفع بكل السبل نحو تنفيذها بعد هذا الكم الهائل من التضحيات والشهداء الذي قدّمه الشعب الفلسطيني البطل الصامد على أرضه.
(خاص "عروبة 22")