تقدير موقف

المشروع الوطني الفلسطيني بعد العدوان

كانت الحاجة لتجديد المشروع الوطني الفلسطيني قائمة قبل العدوان على غزّة، لكنها أصبحت أكثر الحاحًا وأشد ضرورة بعد الحرب التي أكدت فشل المسار السابق للقيادة الرسمية الفلسطينية، بل إنّ تعثّر المشروع الوطني كان أحد العوامل التي أدت إلى ذلك العدوان.

المشروع الوطني الفلسطيني بعد العدوان

المشروع الوطني يجب أن يتكون من ثلاثة عناصر، وهي:

1 -   الهدف الوطني أو الأهداف الوطنية

2 -   الاستراتيجية المطلوبة لتحقيق الأهداف

3 -   الآليات والبنيان الداخلي للحركة الوطنية الذي يحوّل الاستراتيجية إلى أفعال

وفيما يتعلق بالأهداف، يبرز السؤال لماذا الحاجة إلى مشروع جديد؟

لأنّ الممثل الرسمي للفلسطينيين، منظمة التحرير الفلسطينية، تخلّت في الثمانينات عن مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة، وتبنّت هي، والسلطة بعد ذلك، برنامج "حلّ الدولتين"، أي إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وحلّ متفق عليه لقضية اللاجئين، وترك الداخل الفلسطيني بجعل قضيته قضية مساواة في الحقوق المدنية.

بُني هذا الهدف على وهمين ثبت عدم صحتهما قبل وأثناء معركة غزّة:

الأول: إمكانية الوصول إلى حل وسط مع الحركة الصهيونية.

الثاني: أنّ الولايات المتحدة يمكن أن تقوم بدور الوسيط والضامن للحل.

العودة إلى جذور نشوء القضية الفلسطينية كقضية تحرّر وطني ومقاومة "لمنظومة الاستعمار الاحلالي الاستيطاني"

إسرائيل والحركة الصهيونية قضت على هذين الوهمين وعلى بردايم (paradigm) "حلّ الدولتين" وأكدت ذلك الأفعال التالية:

- فشل إتفاق ونهج "أوسلو" حيث كرّس حكام إسرائيل بمن فيهم نتنياهو، وليس فقط نتنياهو، رفض الدولة الفلسطينية ذات السيادة وواصلوا توسيع الاستيطان وسياسة الضم والتهويد.

- تبني إسرائيل قانون القومية-الدولة اليهودية وحصر حق تقرير المصير في فلسطين التاريخية باليهود فقط وظهور نزعة تفوّق العرق اليهودي (Jewish supremacy) وانعطاف إسرائيل نحو الفاشية.

- معالجة إسرائيل لمعضلة الوجود الديموغرافي الفلسطيني بثلاث وسائل:

أ- استكمال الاستعمار الإحلالي الاستيطاني بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية.

ب- إنشاء منظومة الأبارتهايد العنصرية ضد الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني والأراضي المحتلة واللاجئين في الخارج.

ج- محاولة تكرار التطهير العرقي وتنفيذ الإبادة الجماعية ضد ملايين الفلسطينيين كما يجري الآن في قطاع غزّة واعتباره الحل النهائي للمعضلة الديموغرافية.

ونضيف إلى ذلك ما أثبتته معركة غزّة، وما صار ناضجًا في الوعي الجمعي الفلسطيني، وهو العودة إلى جذور نشوء القضية الفلسطينية كقضية تحرّر وطني ومقاومة "لمنظومة الاستعمار الاحلالي الاستيطاني" التي بدأ تنفيذها منذ أواخر القرن التاسع عشر، والتي جسّدها "وعد بلفور" وما تبعه.

الهدف الوطني العام:

وبالتالي، بعد فشل تجربة "أوسلو" والمراهنة على المفاوضات، فإنّ الهدف الوطني الفلسطيني العام يجب أن يتغيّر ليصبح، ليس فقط إنهاء الاحتلال، بل "إسقاط منظومة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، ونظام الأبارتهايد العنصري في كل فلسطين التاريخية، وبما يضمن تنفيذ عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هُجّروا منها، وإنشاء مجتمع ديمقراطي يحقق فيه الفلسطينيون حقوقهم القومية والمدنية، وتقرير المصير، ويتساوى فيه الناس في الحقوق والواجبات".

ولن يتحقق ذلك الهدف بالمراهنة على ديناميكيات داخلية إسرائيلية، بل عبر:

(1) مقاومة متنوعة بهدف تغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني.

(2) صمود على الأرض يبطل مخططات التطهير العرقي.

(3) حصار عالمي لمنظومة الاستعمار الاستيطاني بفرض المقاطعة والعقوبات عليه، كما جرى مع نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.

أما عن الاستراتيجية لتغيير ميزان القوى، وباختصار، فيجب أن تقوم على ثلاثة مبادئ:

- الاعتماد على النفس.

- تنظيم النفس (في كل المجالات النضالية، الإعلامية الاقتصادية).

- تحدي منظومة الاحتلال والاضطهاد العنصري والاستعمار الإحلالي.

وأن تتكوّن من ستة عناصر:

1 -   دعم الصمود والبقاء في فلسطين وتعزيز الوجود الديمغرافي المقاوم.

2 -   المقاومة بكل أشكالها.

3 -   توحيد الصف الوطني وبناء قيادة وطنية موحّدة.

4 -   تحقيق التكامل النضالي بين مكوّنات الشعب الفلسطيني في داخل – خارج – الأراضي المحتلة.

5 -   تعظيم حركة المقاطعة وفرض العقوبات BDS.

6 -   اختراق صفوف الخصم وبناء حركة تضامن دولية واسعة مع الشعب الفلسطيني تبنى على ما تحقق.

لم يعد للخلاف على السلطة أي مبرر لأنّ الاحتلال حوّلها إلى سلطة بلا سلطة

الآليات المطلوبة:

لا يمكن لحركة تحرّر وطني أن تنتصر دون جبهة وقيادة وطنية موحّدة، وخصوصًا بعد زوال مبررات الانقسام الداخلي.

وبعد فشل مشروع "أوسلو" باعتراف أصحابه، لم يبقَ سوى مشروع المقاومة والنضال من أجل الحرية والحقوق الوطنية.

أما الخلاف على السلطة فلم يعد له أي مبرر لأنه لم تبقَ فعليًا أي سلطة، لأنها جميعها تحت الاحتلال الذي حوّلها إلى سلطة بلا سلطة.

ولا بد من الإقرار أنّ النظام السياسي الفلسطيني يعاني من أزمة عميقة، ومعركة غزّة، أثبتت أنّ المنظومة الرسمية عاجزة، عن مواجهة التحديات الخطيرة التي يُمثّلها العدوان الصهيوني.

النضال الفعلي على الأرض صار متقدّمًا بوحدته على الانقسام القائم بين الفصائل

وتعود هذه الأزمة لعدة أسباب:

- فشل البرنامج والمشروع السياسي لقيادة "م ت ف" (منظمة التحرير الفلسطينينة) – أي مشروع "أوسلو".

- استمرار الانقسام الداخلي واستمرار تعطيل جهود المصالحة.

- انعدام الديمقراطية الداخلية في مؤسسات منظمة التحرير والسلطة.

- الفشل في بلورة آليات للشراكة الديمقراطية سواء على مستوى: قيادة النضال الوطني، أو إدارة العملية السياسية، أو إدارة السلطة، أو إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية.

إذ صار الجمهور الفلسطيني، في الداخل والخارج، متقدّمًا على القيادة الرسمية، والنضال الفعلي على الأرض متقدّمًا بوحدته على الانقسام القائم بين الفصائل. ونشأت فجوة واسعة وعميقة بين القيادة الرسمية لـ"م ت ف" ومعظم الفصائل المنضوية فيها، وبين الجمهور وخصوصًا الأجيال الشابة التي تشعر بالتهميش والإقصاء، في وقت تتعاظم فيه المؤامرات لتصفية حقوق الشعب الفلسطيني والالتفاف عليها.

وحل هذه المعضلة يتطلّـب:

أ -    حماية حق الشعب الفلسطيني في تمثيل نفسه.

ب -  توحيد مكوّنات الشعب في حركته النضالية والحفاظ على وحدة الأرض والوطن الفلسطيني.

والمزج بين الأمرين لا يُحلّ إلا بتشكيل قيادة وطنية موحّدة تضم جميع القوى والطاقات النضالية في إطار منظمة التحرير على أساس:

برنامج وطني كفاحي مقاوم للمشروع الصهيوني برمته وليس متكيّفًا معه.

بناء منظومة ديمقراطية داخلية على أساس الشراكة الديمقراطية ورفض التفرّد والهيمنة.

وإجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية تشمل الفلسطينيين في الداخل والخارج.

وانتزاع زمام المبادرة في العمل لتطبيق هذه الأهداف وبناء قوة ضغط شعبية لتحقيقها. وأخيرًا، إعادة بناء العلاقات الفلسطينية مع قوى التحرّر والتقدّم العربية والعالمية بالاستناد إلى ما أثمرته الثورة العالمية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني والرافضة للعدوان على قطاع غزّة، وإلى تاريخ عريق من علاقات الثورة الفلسطينية معها.

وللحديث بقية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن