الحقيقة أنّ مسألة عودة "المواطن الطبيعي" بدت واضحة في كثير من البلاد العربية ولكنها بدت أكثر وضوحًا في مصر، لأنّ مواطنيها تعرّضوا لحملات منظّمة لتزييف الوعي وغسيل الدماغ وتحويل التعاطف الفطري الطبيعي مع أي شعب مضطهد وعلى رأسه الشعب الفلسطيني إلى قضية جدل سياسي وكلام عن الفلسطينيين الذين "باعوا أرضهم أو يكرهون المصريين أو الذين يعيشون مترفين في دول الخليج ونسوا قضيتهم، أو الذين يرغبون في أن نحارب بدلًا منهم"، وانتهت بالقول إنهم "قتلوا جنودنا في سيناء".
مواقف بعض الناس من القضية الفلسطينية كانت في بعض الأحيان أسوأ من مواقف الأوروبيين وأهل الغرب والشرق منها، بحيث تشعر أنّ هناك دعاية سوداء ملأت نفوس البعض وجعلت تعاطفهم أو دعمهم للقضية الفلسطينية يحتاج أولًا لنسف هذه الدعاية حتى يصبحوا مواطنين طبيعيين قد تختلف أو تتفق مع موقفهم السياسي.
العودة للمشاعر الفطرية تبني مواطنًا "صالحًا" ويمكن أن يؤسّس عليها توجهات سياسية في صالح الجميع
والحقيقة أنّ كثيرًا من النقاشات التي عرفتها الساحات العربية وخاصة المصرية عقب معاهدة السلام في 79 كانت تحتاج لبذل جهود ليس من أجل "تجنيد" الناس ليصبحوا مناصرين للقضية الفلسطينية أو منخرطين في أحزاب تدعمها إنما لكي تجعلهم يصلون إلى مرحلة المواطن "الطبيعي" الذي يقول إنه وطني ويبحث عن مصلحة بلده أولًا وعلى استعداد لدعم الشعب الفلسطيني أو التعاطف معه دون أن يتضرر.
هذه المعادلة البسيطة لم يصل إليها كثير من الناس في السنوات الماضية وكانت هناك قصص من وحي الخيال ترسّخت في نفوسهم حوّلت كفاح شعب ضد محتل غاصب إلى نقاش حول أنهم سعداء بالاحتلال ويتعاونون معه أو أنهم باعوا أرضهم وغيرها من التعبيرات المزيّفة التي تجاهلت حقائق الواقع المعاش على الأرض.
أهمية إعادة الاعتبار للمواطن الطبيعي أنها تُمثّل العودة للمشاعر الفطرية التي تبني مواطنًا "صالحًا" يمكن أن يؤسّس عليها توجهات سياسية مهما كان لونها ستكون صحية وفي صالح الجميع.
إنّ "المواطن الطبيعي" هو الذي سيقول إنه ضد الظلم والقهر والاحتلال وإنه ضد قتل الأطفال والمدنيين في أي حرب، ثم بعد ذلك يأتي الموقف السياسي فهناك من سيعتبر أنّ تضامنه مع أهل غزّة بدوافع دينية، وثاني بدوافع قومية وثالث بدوافع العدالة الإنسانية، وهي كلها اختيارات مشروعة وفق قناعات كل شخص.
وهناك أيضًا تفاوت في التعبير عن درجة هذا الدعم، فهناك من يرى أنه يجب أن يكون بالسلاح وهناك من يرى أنه سيكون بالمال وثالث سيعتبر الحملات القانونية والسياسية ضد دولة الاحتلال هي طريقة للتعبير عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، وهناك من سيقول لك مثل "ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع" ويفضل فقط دعم أهل بلده دون إساءة للآخرين.
المواقف السياسية الصحية والمجتمعات المتقدمة هي التي تبني خيارات مواطنيها على بديهيات صحيحة ومعلومات حقيقية، ولذا يبدو الأمر مدهشًا أنك لا تستمع في أوروبا إلى خطاب التحريض والكراهية ضد الفلسطينيين الذين كنا نسمعه في بلاد عربية وخاصة في مصر عقب "كامب ديفيد" وعقب حكم "الإخوان".
ثبت بالصوت وبالصورة أنّ الفلسطينيين شعب يدفع ثمنًا باهظًا من أجل نيل استقلاله وحريته
صحيح أنّ هناك أفكارًا مزيفة تبثها جماعات ضغط صهيونية موالية لإسرائيل تهيمن على جانب كبير من النخب السياسية والإعلامية ولكنها تروّجها في بيئة محايدة تجاه القضية الفلسطينية، كما أنها تركز على خطاب المظلومية الإسرائيلي واعتبرتها دولة ضحية في مواجهة إرهاب "حماس" والفلسطينيين، وروّجت لرواية سياسية تخدم مصالحها ومصالح دولة الاحتلال التي تدعمها، وهذا على عكس خطاب التحريض الذي ساد في وسائل إعلام مصرية لسنوات طويلة ضد الشعب الفلسطيني وروّج لأكاذيب هي عكس المصالح المصرية العليا بل وتضربها في الصميم.
ما جرى على مدار نصف قرن في مصر من اتهامات وخطاب تحريض كاذب بحق الفلسطينيين وبحق فصائل المقاومة وتوزيع اتهامات مجانية على "حماس" وغيرها، أسقطته حرب غزّة التي أخرجت من الناس مشاعرهم الطبيعية، فقد ثبت بالصوت وبالصورة أنّ الفلسطينيين شعب متشبث بأرضة يقاوم بإمكانات محدودة المحتل الغاصب ويدفع ثمنًا باهظًا من أجل نيل استقلاله وحريته، ولم تحارب فصائله في أي بلد آخر غير فلسطين من "البحر إلى النهر".
نظريات المؤامرة والكلام الفارغ والقصص الوهمية حول الشعب الفلسطيني سقطت مع حرب غزّة، وعاد الناس لمشاعرهم الفطرية والطبيعية فتعاطفوا مع الشعب الفلسطيني بصورة غير مسبوقة، صحيح أنّ ترجمة هذا التعاطف في فعل مؤثر كان محدودًا للغاية لوجود نظم سياسية وقفت في مواجهته، إلا أنّ وجود هذا التعاطف مثل "بشرة خير" يمكن أن تبنى عليها مواقف سياسية صحية ومستندة إلى الفطرة الإنسانية وإلى وقائع تاريخية، ولم يعد الناس في حاجة أن يبحّوا صوتهم في مناقشة بديهيات إنما أصبحنا أمام مرحلة تقول ما العمل وما هي أسباب ضعفنا وعجزنا وهي كلها أمور نسبية تقبل النقاش الصحي والجدل والخلاف بعيدًا عن خطاب التدليس وتزييف الوعي.
(خاص "عروبة 22")