صحافة

اليمين الإسرائيلي.. وإعادة استيطان قطاع غزّة

يحيى عبدالله

المشاركة
اليمين الإسرائيلي.. وإعادة استيطان قطاع غزّة

يحكم إسرائيل، منذ ما يسمى بـ«الانقلاب» السياسي عام 1977 مع صعود حزب «الليكود» إلى الحكم بزعامة مناحيم بيجن وحتى الآن، حكومات مؤلفة من أحزاب يمينية، أو أحزاب يمين الوسط؛ وتعد الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو ــ قبل انضمام حزب «المعسكر الرسمي»، المصنف من أحزاب «الوسط» بزعامة بني جانتس إليها بعيْد إعلان الحرب على غزة ــ حكومة يمينية خالصة. كل الأحزاب المؤتلفة بها يمينية، سواء أكانت علمانية صهيونية، مثل حزب «الليكود» بزعامة نتنياهو، أم دينية صهيونية مثل أحزاب: «الصهيونية الدينية» بزعامة بتسلئيل سموتريتش، و«قوة يهودية» بزعامة إيتمار بن جفير، وحزب «شاس» (حراس التوراة السفارديون) بزعامة أرييه درعي، أم دينية غير صهيونية (حريدية/أرثوذكسية) مثل حزب «يهود التوراة» بزعامة إسحاق جولد كنوفيف.

ينزاح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين بخطى ملحوظة لأسباب عديدة ليس المجال الآن للخوض فيها، لذا فإن الرهان على ما يسمى بأحزاب «الوسط» و«اليسار» رهان خاسر. سيضطر متخذ القرار، سواء أكان فلسطينيًا أم عربيًا أم كليهما معا، إلى التعامل مع حكومات يمينية على المدى المنظور، ومن ثم لا يجب أن تكون لدينا أوهام بشأن ما تتناقله وسائل الإعلام مع كل منعطف من منعطفات الصراع حول ما يسمى بـ«حل الدولتين»، خاصة التصريحات الأمريكية، لأن كل الأحزاب اليمينية ــ التي تفرض الإيقاع السياسي الآن ــ تتفق على رفض إقامة دولة فلسطينية لأسباب عقدية أيديولوجية تزعم أن شعب إسرائيل وحده صاحب «الحق» الحصري في «أرض إسرائيل»، ومن ثم لا يجوز «التنازل» عن أجزاء منها. أما الأسباب الاستراتيجية، فترى أن مناطق الضفة الغربية تمثل موقعا استراتيجيا مهما يشرف على القدس وعلى كل مدن السهل الساحلي، بما في ذلك مطار بن جوريون الدولي. والأسباب العنصرية ترى أنه لا وجود أصلا لشعب فلسطيني أصيل، مع زعم بأنه «شعب خليط مهاجر» من المناطق العربية، وهو ما يفسر إطلاق إسرائيل على فلسطينيي الداخل اسم «عرب إسرائيل»، وهو أمر مثير للضحك لأن إسرائيل دولة قامت على الهجرات، ومنحت كل شخص يهودي، بمن في ذلك المشكوك حتى في يهوديته، الجنسية وحق المواطنة بمجرد أن تطأ قدمه أرضها، بموجب قانون «العودة».

وإذا ألقينا نظرة على المبادرتين السابقتين الأخيرتين ــ مبادرة الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، ومبادرة الرئيس السابق، دونالد ترامب، المعروفة باسم «صفقة القرن» ــ فإننا نجد أن كل رموز الأحزاب اليمينية قد تجندت لإفشالهما، قولا وعملا. ففي أعقاب رعاية إدارة أوباما لمفاوضات في واشنطن بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية عام 2013 حول «حل الدولتين»، بدأت شخصيات يمينية إسرائيلية ــ من بينهم وزراء وأعضاء كنيست وشخصيات عامة ــ حملة عامة تحت عنوان «دولة واحدة لشعب واحد»، دعت إلى بناء حي استيطاني كبير بين القدس ومستوطنة «معليه أدوميم» لمنع إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وطوى النسيان مبادرة أوباما.

ولم يكن مصير مبادرة دونالد ترامب أفضل حالا من مبادرة أوباما، إذ تجندت التيارات اليمينية إلى إفشالها هي أيضا، حيث نشرت هذه التيارات وثيقة وقع عليها عشرات من الوزراء في حكومة نتنياهو السابقة وأعضاء كنيست تعهدوا فيها بالعمل من أجل إلغاء إعلان «دولتين لشعبين» واستبداله بمقولة «دولة واحدة لشعب واحد»، مع تبني خطة رئيس الحكومة اليميني الراحل، إسحاق شامير، التي تدعو إلى توطين نحو 2 مليون مستوطن يهودي بالضفة الغربية. كان من بين الموقعين على الوثيقة: وزير الخارجية الحالي، يسرائيل كاتس، ووزير الدفاع الحالي، يوآف جالانت، ورئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الحالي، تساحي هنجبي، ووزير العدل الحالي، ياريف ليفين، ووزير المالية الحالي، بتسلئيل سموتريتش، ووزير الاقتصاد الحالي، نير بركات، ورئيس الحكومة السابق، نفتالي بينيت، وغيرهم.

فضلا عن معارضتها لإقامة دولة فلسطينية، فإن الأحزاب اليمينية ــ بكل أطيافها مع استثناءات ثانوية ــ تؤيد سياسة الاستيطان تأييدا مطلقا، بل إن بعضها، خاصة الدينية، يرى أن ما يسمى بـ«أرض إسرائيل الكاملة» (تمتد حدود هذه الأرض في صيغتها التوراتية القصوى من النيل إلى الفرات، لكنها تضيق وتتسع طبقا للظروف السياسية، وطبقا للقدرة العسكرية الإسرائيلية) هي الحدود التي ينبغي أن تكون عليها حدود دولة إسرائيل؛ وتنقسم الأحزاب اليمينية إزاء التسوية الإقليمية مع الشعب الفلسطيني، إذ تؤيد بعضها التسوية بوصفها «أهون الضررين»، وتوافق على «التنازل» عن بعض أجزاء من هذه الأرض (بعض أعضاء في حزب «الليكود»، وحزب «شاس» بعد «فتوى» شهيرة لزعيمه الروحي السابق، الحاخام، عوفديا يوسف، مع الإبقاء على معظم المستوطنات الكبرى في الضفة الغربية والكتل الاستيطانية بحوزة إسرائيل)، لكن بعضها ترفض «التنازل عن شبر واحد»، وتدعو صراحة إلى ضم الضفة الغربية بأكملها، وفرض السيادة الإسرائيلية عليها.

لذا لم يكن مستغربا أن تنفتح شهية التيارات اليمينية، بعد اجتياح قطاع غزة، على إعادة استيطان القطاع كما كان عليه الحال قبل الانسحاب منه عام 2005، حيث عقدت مؤتمرا جماهيريا حاشدا ــ تداعى إليه نحو 5000 شخص ــ يوم الأحد 28 يناير 2024 بقاعة المؤتمرات الكبرى بالقدس تحت مسمى: «نصرة إسرائيل ــ الاستيطان يجلب الأمن، عائدون إلى قطاع غزة»، ترددت خلاله هتافات تدعو إلى طرد وترحيل سكان غزة، وسط استحسان الوزراء وكبار الشخصيات العامة، إذ إن «معنى إعادة الاستيطان اليهودي في قطاع غزة هو الترانسفير بعينه»، كما يقول بن درور يميني («يديعوت أحرونوت»، 30 يناير 2024م). كان من أبرز الداعين إلى عقد المؤتمر حركة يمينية استيطانية، تسمى: «نحلا» أي: إرث/ ميراث بالمفهوم الديني تتخذ من «خريطة أرض إسرائيل، التي تضم ليس الضفة الغربية وهضبة الجولان فقط، وإنما شبه جزيرة سيناء ومعظم أراضي المملكة الأردنية الهاشمية، وأجزاء من سوريا والعراق، شعارا لها» (يائير شيلج، «ماكور ريشون، 2 فبراير 2024). شارك في المؤتمر أيضا 12 وزيرا من وزراء الحكومة الحالية، نصف أعضاء الحكومة تقريبا، وعشرات من أعضاء الكنيست (البرلمان) يدعمهم بعض كبار الحاخامات.

مما يبعث على القلق أن عقد المؤتمر في هذا التوقيت، يكشف طبيعة التوجهات اليمينية المتطرفة، التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من منظومة الحكم في إسرائيل، إذ تشير وثيقة أعدها معهد «متفيم» و«صندوق بيرل كتسنلسون»، إلى أن «المواقف اليمينية التي كان ينظر إليها في الماضي على أنها راديكالية بدأت تتغلغل الآن في التيار الرئيس بالمجتمع، ولم تعد هامشية ومحدودة». (إيناس إلياس، «يسرائيل هيوم»، 31 يناير 2024). وقد سبق عقد المؤتمر تصريحات لشخصيات عامة عديدة طالبت بوجوب «إعادة احتلال قطاع غزة وضم أجزاء ملموسة من شماله، وطرد معظم سكانه وإقامة مستوطنات يهودية به، يضاف إليها حوار متطرف أيضا بشبكات التواصل يعبر عن شوفينية صاخبة، ويدفع نحو مزيد من التطرف». (داني دانيئيل، «والا»، 28 يناير 2024) .

الاستيطان نهج صهيوني ثابت، وهو بحسب البروفيسور، رون شبيرا، عميد مركز بيرز الأكاديمي، «مشروع دشنه ليفي إشكول، وجولدا مائير، وإسحاق رابين، ويجآل آلون» (يديعوت أحرونوت، 30 يناير 2024). هو مشروع تبنته كل الحكومات الإسرائيلية بلا استثناء، سواء أكانت «عمالية» أم «ليكودية»، لأسباب أمنية، ولأسباب تفاوضية، ولإشباع تطلعات دينية لدى جانب كبير من المتدينين، الذين يرون أن توطين «أرض إسرائيل» (ربما نعود لمفهوم «أرض إسرائيل» في مقال لاحق إن شاء الله) فريضة توراتية.

تتباين الآراء حول الدعوة إلى المؤتمر، وحول فكرة إعادة استيطان غزة، إذ ثمة آراء ترى أن الاستيطان صيغة صهيونية تقليدية مهمة لأمن إسرائيل (يوسي داجان، «ماكور ريشون»، 9 فبراير 2024)، وأنه «عادل ومحق، وإن كان غير حكيم من ناحية تأثيره على صورة إسرائيل واستراتيجيتها في الوقت الحالي» (رون شبيرا، يديعوت أحرونوت، 30 يناير 2024)، وأنه يجب أن يتم عبر «توافق واسع من قبل الشعب الإسرائيلي» (بنحاس فلرشتاين، الرئيس السابق لمجلس مستوطنات الضفة الغربية وغزة، يديعوت أحرونوت، 31 يناير 2024). الأمر المؤسف أن من يعارض المؤتمر وفكرته، لا يعارض من منطلق مبدئي قانوني يرى في الفعل الاستيطاني فعلا مجرما طبقا للقانون الدولي، وإنما يعارضه لما ينطوى عليه من أضرار محتملة على إسرائيل، من ناحية أن «مضامين المؤتمر ستوفر سلاحا لإقامة دعاوى قانونية في المستقبل أمام محكمة العدل الدولية» (طوف هرتسل، يديعوت أحرونوت، 30 يناير 2024)، أو من ناحية كونه خطرا على تماسك المجتمع الإسرائيلي: «قبل أربعة أشهر فقط كنا على شفا حرب أهلية (بسبب قوانين التعديلات القضائية المثيرة للجدل)، وإذا اقتنع أنصار اليسار والوسط أنهم ليسوا شركاء في حرب من أجل الوجود، وإنما في حرب من أجل توسيع حدود الاستيطان والدولة، فسيتضرر الدافع (القتالي) لدى عديدين منهم بشكل خطير أيضا»، (يائير شيلج، «ماكور ريشون»، 2 فبراير 2024).

ثمة تصريحات لنتنياهو وكبار قادة الجيش ينفون فيها نيتهم إعادة احتلال غزة، أو إعادة استيطان أجزاء منها، لكن عقد هذا المؤتمر، الذي حضره وزراء وأعضاء كنيست من حزب الليكود نفسه، يثبت أن مقاليد الأمور لم تعد بيد نتنياهو، في ظل احتياجه إلى كل من إيتمار بن جفير، وبتسلئيل سموتريتش، وغيرهما من الشركاء المتطرفين.

("الشروق") المصرية

يتم التصفح الآن