ليس سرًا أنّ عوامل كثيرة تربط بين الكيانين هنا على الشاطئ الجنوبي من البحر المتوسط، وهناك على الشاطئ الشمالي من البحر نفسه، ولا شيء يدل على وجود عوامل رابطة لا مُفرقة، إلا أنّ "الاتحاد من أجل المتوسط" عندما نشأ في العقد الثاني من هذا القرن برئاسة فرنسية مصرية مشتركة، كان يضم دول جنوب البحر ومعها دول شماله في القارة العجوز.
من حيث النشأة سوف نكتشف أنّ الاتحاد الأوروبي والجامعة خرجا إلى النور في فترة زمنية واحدة تقريبًا، وهذا يعني أنّ البدايات إذا كانت واحدة من حيث لحظة الانطلاق، فالمنطق يقول إنّ النهايات تأتي في الغالب هي الأخرى واحدة، أو هكذا يجب، لكن هذا لم يحدث، والدليل هو هذه المقارنة التي لا تتوقف، والتي لا ييأس أصحابها من البحث عن الأسباب.
التأثير والتأثّر في منطقة البحر المتوسط كان متبادلًا بين الحضارتين العربية واليونانية
ليس هذا فقط، وإنما هناك رابطة أخرى تبدو شكلية، ولكنها رابطة على حال، وهي تتمثل في عدد الدول التي انطلق بها كل كيان من الكيانين في حينه. فالاتحاد انطلق بست دول هي: فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، بلجيكا، لوكسمبورج، ثم هولندا.
أما جامعة الدول فانطلقت بسبع دول هي: مصر، السعودية، العراق، سوريا، لبنان، الأردن، ثم اليمن السعيد.
وعند أي مقارنة في اللحظة الحالية يتبيّن لنا أنّ الاتحاد إذا كان قد بلغ في عدد أعضائه ٢٧ دولة، فالجامعة وصلت في عضويتها إلى ٢٢ عضوية، وهما كما ترى رقمان متقاربان، ويدعمان المقارنة في كل وقت، ويعززان من أسباب القيام بها.
شيء آخر هو أنّ منطقة البحر المتوسط تظل في المحصلة الأخيرة ذات ثقافة واحدة، وحضارة مشتركة، لأنّ التأثير والتأثّر فيها كان متبادلًا بين الحضارتين العربية واليونانية على وجه الخصوص، وبالتالي، فهذا التأثير وذاك التأثّر يخلقان بالضرورة وجوه شبه، ويرشحان حصيلة العمل الجماعي لأن تكون متشابهة في النهاية، فضلًا بالطبع عن أن تكون حصيلة واحدة.
ولكن هذا غير قائم، وغير موجود، والبحث عنه في كل مرّة من مرّات المقارنة المشار إليها لا يكاد يؤدي إلى شيء.
إننا لا نزال نذكر أنّ اليونان كانت قد تعرّضت لأزمة اقتصادية كادت تؤدي بها إلى الإفلاس، وكان ذلك في عام ٢٠٠٨، ولا بد أنّ كثيرين بيننا يذكرون وقائع أزمتها في تلك الأيام، ويذكرون أنه لم ينقذها من أزمتها الحادة وقتها إلا عضويتها في الاتحاد، الذي تقدّم لإنقاذها بكل أعضائه، ولم يتركها إلا وهي دولة طبيعية قادرة على الوقوف بين الدول.
ولا نزال نذكر في المقابل أنّ العالم العربي، كان على موعد، في مرحلة ما لا يزال يُسمى بالربيع العربي، مع عواصف ضربت العديد من بلاده، وكانت النتيجة أنّ دولًا فيه لا دولة واحدة واجهت خطر السقوط، وبعضها سقط ولا يزال في فوضى لا تعرف متى يمكن أن تكون لها نهاية.
صحيح أنّ الأزمة التي تعرّضت لها اليونان كانت اقتصادية خالصة، وصحيح أنّ العواصف التي هبت على عالمنا العربي كانت خليطًا بين السياسة والاقتصاد وسواهما، لكن السؤال هو دائمًا عن السبب الذي جعل الاتحاد هناك قادرًا على أن يتقدّم فيكفل اليونان، ولا يدعها إلا وهي متوازنة، بينما الجامعة لم تقدر على ذلك مع أي من الدول التي عصف بها "الربيع"، فخرجت منه وهي أقرب إلى أشباه الدول منها إلى الدول ذات الأركان الراسخة؟.
للاتحاد "كيان يعلو على كيان الدول الأعضاء فيه".. هذه العبارة هي السر في الفارق بين الكيانين جنوب البحر وشماله
لماذا استطاع الاتحاد أن يتقدّم هناك فأنقذ وانتشل دولة من بين أعضائه، ولماذا لم يحالف التوفيق جامعة الدول هنا على ذات الطريق، لا في التقدّم لتحقيق مهمة الإنقاذ بالنسبة للدول التي تتمتع بعضويتها، ولا في الإسراع بانتشال هذه الدول مما ذهبت إليه؟.
الإجابة على السؤال نجدها في عبارة مهمة ذكرها شارل ديجول، وهو يتحدث في مذكراته عن ظروف نشأة الاتحاد، فهو يقول إنّ الاتفاق بين الدول الست المؤسّسة كان على أساس أنّ للاتحاد: كيانًا يعلو على كيان الدول الأعضاء فيه.
هذه العبارة المهمة تحمل الإجابة، وهي السر في الفارق بين الكيانين الإقليميين جنوب البحر وشماله، ولا سبيل إلى أن يكون للجامعة ما للاتحاد من أثر بين الأعضاء، إلا بتعديل في ميثاقها يضع هذه العبارة ويعتمدها، ومن بعدها سوف نحلم بمستقبل عربي يليق بنا، وسوف نستطيع الذهاب إليه ونحن واقفون على أرض ثابتة.
(خاص "عروبة 22")