هذه الفكرة، التي تبدو للوهلة الأولى خيالية، لا تأتي من عدم، فثمة قلق حقيقي ينتاب دوائر رسمية عربية بهذا الخصوص، وفقًا لما صرّح به مصدر دبلوماسي عربي لـ"عروبة 22"، مشيرًا إلى أنّ الدول العربية المطلّة على البحر الأحمر والمعنية مباشرة به، تشعر بقلق كبير إزاء تزايد حجم القوات الأمريكية والغربية، التي تتواجد في مياه البحر الأحمر بحجة الدفاع عن حرية الملاحة هناك.
وأضاف المصدر: "هذه المخاوف المشروعة، يعزّزها الاتجاه الأمريكي والغربي لتكثيف التواجد العسكري، حتى أكثر مما تحتمله مسألة ضمان حرية الملاحة".
وعلى طريقة أنّ "من يمنح قد يمنع"، تساءل الدبلوماسي العربي: "ما الذي سيمنع لاحقًا في اليوم التالي لوقف الحرب من أن يستمر عمل هذه الأساطيل الأجنبية في المنطقة، بدعوى الحماية، ولاحقًا تبدأ في المطالبة بأموال مقابلها".
يعتقد الخبير الاستراتيجي الجنرال محمد عبد الواحد، أنّ الولايات المتحدة نجحت فعلًا في فصل ملف البحر الأحمر، عن ملف غزّة، لتحقيق مصالح استراتيجية، في أحد أهم الممرات المائيه في العالم.
وإذ يشير عبد الواحد في حديثه مع "عروبة 22" إلى أنه في تاريخ الصراعات الكبيرة كان هناك ما يُسمّى بـ"الإتاوات"، عندما يفرض القوي على الضعيف دفع ثمن حمايته، إلا أنه يعتقد في الوقت ذاته بصعوبة تنفيذها في ظل النظام العالمي الحالي، كونها تتعارض أيضًا مع موقف روسيا والصين الرافض لسيطرة أمريكا والغرب على هذه الممرات.
ولم يستبعد الجنرال المصري أن يؤدي الأمر إلى الحصول على مميّزات في الممرات المائية، خاصة أنّ واشنطن وحلفاءها بدأوا في تطبيق قاعدة "من يسيطر على البحار والممرات المائية، يسيطر على العالم".
مليارا دولار سنويًا للحوثيين
ومع ذلك، يتصدّر الهاجس الأمني المشهد الحالي في منطقة البحر الأحمر وباب المندب حيث تظل سلامة السفن وسلامة الأطقم هي الشاغل الأساسي لدى ملّاك السفن وبالتالي ترتفع قيم التأمين البحري على السفن المارة بتلك المنطقة.
هذه التسالاوت عزّزتها تسريبات غربية عن بدء شركات أوروبية بالفعل منذ حوالى شهر بدفع أموال لجماعة أنصار الله "الحوثيين" مقابل مرور كل سفنها بأمان في البحر الأحمر، تذهب تلك الأموال إلى حسابات بنكية خارجية تابعة لشركات يمتلكها الحوثيون الذين يحققون ربحًا سنويًا يُقدّر بنحو ملياري دولار من السفن العابرة في البحر الأحمر.
وفقًا لهذه المعلومات، يدفع بعض السفن ما بين نصف مليون دولار إلى ما يقرب المليون دولار على سفينة الشحن، وهذه الأموال تبقى أقل من التكلفة التشغيلية التي تحتاجها السفينة إذا مرّت عبر رأس الرجاء الصالح.
وساهم تعاظم التداعيات السلبية لعمليات وتهديدات الحوثي على سلاسل توريد الشحن البحري حول العالم، في تصنيف البحر الأحمر وباب المندب مناطق عالية المخاطر، الأمر الذي اضطر الشركات العالمية الكبري للشحن والحاويات إلى تبني خيارات بديلة.
بالنسبة لشركات الشحن البحري، فإنّ طول المسافة وتزايد زمن الرحلة سينعكس بالسلب على إيراداتها ورفع تكلفة الرحلات ما سينعكس على المستهلكين وميزانيات الحكومات. وقد قفزت بوليصة التأمين التي كانت تبلغ في السابق 100 ألف دولار أمريكي لسفينة الشحن، إلى مليون دولار أمريكي ضد مخاطر الحرب بالنسبة للرحلات عبر البحر الأحمر.
وقال كوري رانسليم، الرئيس التنفيذي لشركة "درياد جلوبال" البريطانية لاستشارات المخاطر البحرية والأمن، إنه من المتوقع أن ترتفع تكاليف النقل في هذه المنطقة بشكل أكبر، الأمر الذي أصبح مبالغاً فيه ويمثّل مكاسب ضخمة قد تصل إلى مليارات الدولارات لبعض هذه الشركات.
الخلاف الأميركي - الأوروبي
في المقابل، أطلق الاتحاد الأوروبي مهمة بحرية مقرّها في لاريسا، اليونانية، "لاستعادة حرية الملاحة وحمايتها" على طول خطوط الاتصال البحري الرئيسية في مضيق باب المندب ومضيق هرمز، بالإضافة إلى المياه الدولية في البحر الأحمر، وخليج عدن، وبحر العرب، وخليج عمان، والخليج العربي.
لكن هذه العملية، على ما يبدو لم تنجح في طمأنة شركات الشحن، بعدما أعلنت مجموعة هاباج لويد الألمانية للشحن، استمرار توجيه سفنها للدوران حول رأس الرجاء الصالح في الوقت الحالي بسبب هجمات الحوثيين.
في الوقت الراهن، تبدو أوروبا على خلاف مع أمريكا، فيما يتعلق بتصنيف حركة "أنصار الله" الحوثية كمنظمة إرهابية، لكن هذا الخلاف ليس مرتبطًا بحرب غزّة، إنما هو موقف مبدئي للاتحاد الأوروبي، الذي لطالما اعتبر أنّ شيطنة الحوثيين سيصعّب إبرام تسوية شاملة للنزاع في اليمن وسيؤدي إلى تعقيد عمل المجتمع الدولي.
ودفع هذا الخلاف بشأن تحويل المهام العسكرية في البحر الأحمر من دفاعية إلى هجومية، الاتحاد الأوروبي للابتعاد عن عملية "حارس الازدهار" وعدم المشاركة في الضربات الأمريكية البريطانية ضد الحوثيين.
ما يؤيد هذه الرؤية، مطالبة وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي، الصين بالمساهمة في إبقاء البحر الأحمر آمنًا لحركة التجارة، والمساعدة في التأثير على الحوثيين لإبقاء البحر الأحمر مفتوحًا، لأنّ السفن الصينية معرّضة للخطر هي الأخرى.
وبينما رأى وزير الدفاع الإيطالي غويدو كروزيتّو، أنّ عدم الاستقرار في منطقة البحر الأحمر يشكل خطراً على الاقتصاد ويرفع تكاليف المواد الخام، إلا أنّ بلاده لا تسعى إلى معالجة الأزمة الحالية على النحو الذي تنتهجه الولايات المتحدة، فيجب أن يكون لأوروبا استراتيجية بحرية طويلة الأمد.
ويطرح أحد السيناروهات فرضية استمرار السجالات بين عملية "حارس الازدهار" وبين الحوثيين، إذ قد لا تفلح العملية في وضع حد جذري لهجمات ميليشيا الحوثي الصاروخية على البحر الأحمر، وسط مخاوف من توقف العبور من قناة السويس والتحوّل إلى طرق النقل البديلة ذات المخاطر الواسعة على التجارة العالمية.
ورغم أنّ السياسة الأمريكية في المنطقة، قد اتسمت بالتخبط والضبابية في ظل غياب رؤية موحّدة وحاسمة من المجتمع الدولي في مواجهتها، فقد ساهمت إدارة بايدن في ضغط الشركات الكبرى على الحكومات الغربية من خلال تعليق حركة الملاحة بالبحر الأحمر.
الابتزاز المالي
التساؤل إذن لا يتوقف حول من يتحمّل فاتورة القوات الدولية المرابطة في مضيق باب المندب؟، بل أيضًا ما إذا كان إعطاء هذه القوات صلاحيات أوسع للتحرك، لحماية السفن المارة من قناة السويس والبحر الأحمر ما قد يُمثّل إتاوة حقيقية، قد تتحوّل لاحقًا إلى رسوم مقننة لتأمين المرور.
قبل سنوات، وتحديدًا في عام 2018 دعا الرئيس الأمريكي السابق رونالد ترامب، في خطاب له، العاهل السعودي بدفع الأموال مقابل الحماية التي يوفّرها الجيش الأمريكي لبلاده.
سياسة الابتزاز المالي، التي انتهجها في السابق ترامب، عبر مطالبته لدول الخليج بدفع ثمن الحماية الأمريكية لها، قد تكون قابلة للتكرار فيما يتعلق بالبحر الأحمر، خاصة وأنّ إصرار واشنطن على القيام بدور المدافع الرئيسي عن ممرات الشحن العالمية السائدة، يُكلّفها أموالًا طائلة.
بمرور الوقت، تحوّل الجيش الأمريكي إلى لعب دور "كلب الحراسة" بالنسبة للسفن العابرة وكأنه هو من يدير نظام قوافل العالم، رغم حقيقة أنّ التكلفة الاقتصادية لاستخدام الجيش الأمريكي لمحاولة منع أو ردع هجمات الحوثيين أعلى بكثير من تكلفة المصالح التجارية.
وقف الحرب.. وإنهاء الحصار
لهذا، تعلو أصوات تحذّر من أنه بدون التزام مستمر طويل الأمد من شركاء متعددين، فلا يمكن ضمان حرية الملاحة والعبور الآمن لخليج عدن والبحر الأحمر، فيما يعتقد البعض أنّ العمليات العسكرية الأمريكية لا تمثّل استثمارًا جيدًا للأمريكيين، وسط مطالب بالتحلي بالبراغماتية عبر خفض الأهداف، وإحلال السلام في غزّة.
الحل إذن بسيط، كما لخّصه الجنرال المصري محمد عبد الواحد بقوله: "من السهل جدًا القضاء على تهديدات الحوثي وذلك بوقف الحرب في غزّة، لأنّ الحوثي مرتبط بها"، مؤكدًا أنه في حال حدوث ذلك، ستنعدم المشاكل القادمة، ليس من الحوثي وحسب، بل من "حزب الله" والمليشيات الشيعيية الأخرى في المنطقة.
وينسجم الأمر مع رؤية مصرية بأنّ الأقل تكلفة أن يتم وقف هذه الحرب وإنهاء الحصار عن سكان غزّة، لإغلاق دائرة العنف إلى الأبد، بدلًا من الحشد العسكري، جنوب البحر الأحمر، وزيادة أمد العمليات العسكرية في المنطقة.
(خاص "عروبة 22")