تحدّث الفيلسوف اليهودي العجوز بغضب وبعيون باكية عن تكرار تجربة الإبادة الجماعية التي تعرّض لها اليهود في أوروبا على يد الإسرائيليين في غزّة، واتهم الدول التي تدعم تل أبيب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، بالضلوع في جريمة لا يمكن وصفها.
كنتُ تعرّفتُ قبل سنوات على هذا الفيلسوف ذي النزعة الانسانية الصادقة في مدينة غرناطة بإسبانيا، خلال ندوة حول حوار الديانات والثقافات. أذكُر وقتها أنه حدّثني عن جذوره اليهودية التي لم تمنعه يومًا من التعاطف مع الشعب الفلسطيني المحتل، وكان يرى أنّ الأمّة التي تعرّضت لأقسى إبادة في العصر الحاضر يترتب عليها أن تتصدّر النضال من أجل حقوق الغير ولا يمكنها أن تكون قوة احتلال وقمع.
موجة جديدة بدأت تخترق جدار الصمت السميك الذي كان يحول بين الشعوب وإدراك حقيقة الموضوع الفلسطيني
ليست حالة مورين نشازًا، فعلى الرغم من ظاهرة التعصّب والتطرّف السائدة اليوم في الإعلام الغربي لصالح إسرائيل، سمعنا حديث شخصيات سياسية وإعلامية بارزة وقفت مع الحق ورفضت العدوان، ومنها رئيس الحكومة ووزير الخارجية الفرنسي الأسبق دومينيك دي فيلبان ووزير المالية اليوناني الأسبق يانيس فاروفاكيس، فضلًا عن الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا وعدد من زعماء بلدان أمريكا اللاتينية وبعض الشخصيات المتميّزة في أوروبا.
نحن هنا في بداية موجة جديدة في الحقل السياسي الغربي، انطلقت من الجامعات والأوساط الحقوقية والمدنية، وبدأت تخترق جدار الصمت السميك الذي كان يحول بين الشعوب وإدراك حقيقة الموضوع الفلسطيني.
عندما أُعلنت دولة إسرائيل (١٩٤٨) كان مطلب إنشاء" وطن قومي لليهود" منسجمًا مع المناخ الفكري والسياسي الأوروبي الذي لا تزال تطبعه مأساة المحرقة اليهودية، رغم أنّ هذه المأساة الفظيعة تمّت خارج الميدان الشرق أوسطي وليس للفلسطينيين أي مسؤولية فيها.
لم تكن الفظائع التي صاحبت نشأة الدولة الإسرائيلية (النكبة الفلسطينية) معروفة للرأي العام الغربي، بل إن السردية التي تم تثبيتها هي أنّ الفلسطينيين غادروا طوعيًا بلادهم إثر هزيمة الجيوش العربية في الحرب ضد إسرائيل. بيد أنّ دراسات المؤرّخين الجدد الإسرائيليين فندت بالكامل هذه السردية، وكشفت عن ظروف التهجير القسري والتطهير العرقي التي واكبت قيام الدولة الإسرائيلية.
وعندما قامت حرب ١٩٦٧ سيطرت سردية انتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة ضد الدول العربية التي بادرت بالهجوم عليها، فتمّ تمويه وضع الاستعمار الاستيطاني الذي كان من الأهداف الأصلية والثابتة للمشروع الصهيوني، ولم تكن الحرب سوى ذريعة لإنجازه.
ومع أنّ بعض الكتّاب والفلاسفة، من أمثال جيل دلوز وتشومسكي وجان جنيت، نبّهوا منذ بداية الثمانينيات إلى فظائع الاحتلال الإسرائيلي، خصوصًا بعد اجتياح لبنان ومجازر صبرا وشاتيلا سنة ١٩٨٢، إلا أنّ الصورة التي ظلّت سائدة في الشارع الغربي هي صورة العربي المعتدي أو الإرهابي الرافض لحق إسرائيل في البقاء.
لم تتبدّل الصورة كثيرًا بعد مؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو الموقّعة في سبتمبر ١٩٩٣، رغم تصاعد الصهيونية اليمينية المتطرّفة التي غدت تحكم إسرائيل منذ نهاية التسعينيات.
صرخة مورين الشجاعة هي التعبير الأقوى عن تغيّـر الصورة
في أوروبا برزت في السنوات الأخيرة اتجاهات فكرية وسياسية جديدة تدعم إسرائيل، سواء من منطلقات دينية واهية (الصهيونية الإنجيلية) أو من منطلقات قومية معادية للعرب والمسلمين (اليمين الشعبوي المتطرّف). وهكذا تراجع زخم اليسار التقليدي الذي كان هو خط الدعم الأساسي للفلسطينيين في الغرب، بما مهد الطريق لنمط من الشراكة غير المسبوقة بين روسيا وإسرائيل، وانفتاح الصين على تل أبيب.
في هذا المناخ المأساوي، تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية حتى في الأوساط التي كانت في السابق تُعتبر صديقة للعرب.
إلا أنّ الصورة تبدو اليوم في طور التغيّر، ولا شك أنّ صرخة ادغار مورين الشجاعة هي التعبير الأمثل والأقوى عن هذا التغيّر.
(خاص "عروبة 22")