صحيح أنّ هانكين اعتبرَت العملية العسكرية الإسرائيلية محض ردّ على هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الذي وصفته بالمذبحة، إلا أنها في الوقت نفسه اعتبرَت أنّ خطورة الكارثة الإنسانية في غزّة تهدد وجود الشعب في ذاته، ما حداها لدعم موقف جنوب أفريقيا على أساس ظاهري (أي قبل التحقيق في جوهر الاتهام والتحقّق من ثبوت نيّة الإبادة الجماعية) في رفع دعوى ضد إسرائيل بسبب انتهاكها التزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
كذلك فإنّ موقف القاضي الهندي دالفير بهانداري كان يتحلّى بالموضوعية. هو مثل القاضية الصينية أدان ما أسماه الأعمال الوحشية التي جرت في هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول بأشّد العبارات الممكنة دون ربط تلك الأعمال بسياقها التاريخي، لكنه أشار أيضًا إلى أنّ المحكمة في قرارها بمعقولية الحقوق الفلسطينية التي طالبَت جنوب أفريقيا بحمايتها كان على المحكمة أن تأخذ بعين الاعتبار الدمار واسع النطاق وخسائر الأرواح في قطاع غزّة - وهو ما أخذَت به المحكمة فعلًا-.
حاولَت القاضية الأوغندية هدم الأساس القانوني لدعوى جنوب أفريقيا وفازت بمنصب نائب رئيس المحكمة
عندما ننتقل إلى موقف القاضية الأوغندية چوليا سيبوتيند والقاضي الإسرائيلي أهارون باراك، نجد أنه ينطبق على موقف القاضية الأوغندية المثل المعروف الذي يُقال عادةً في حق مَن يزايد على أصحاب المصلحة المباشرة، وهو مثل "أكثر كاثوليكية من البابا نفسه". وهذا ليس فقط لأنّ القاضية الأوغندية رفضَت كافة التدابير الستة التي قضت بها المحكمة بينما وافق القاضي الإسرائيلي على تدبيرين اثنين من ستة، لكن كذلك لأنّ تسبيبها موقفها كان واضحًا فيه كمّ الجهد المبذول من جانبها، واستماتتها في نفي اختصاص المحكمة بنظر القضية، وتماهيها التام مع الموقف الإسرائيلي الرسمي بما يتجاوز حتى موقف القاضي الإسرائيلي في محكمة العدل الدولية.
برّرت القاضية الأوغندية رفضها مجمل التدابير المؤقتة بمبرّرين أساسيين، المبرّر الأول هو تكييفها النزاع بين دولة إسرائيل وشعب فلسطين كما قالت "كنزاع" سياسي لا قانوني، وبما أنه كذلك فإنّ تسويته تكون عن طريق المفاوضات والقرارات الدولية ذات الصلة (وكأن إسرائيل تقيم اعتبارًا لقرارات مجلس الأمن الخاصة بالقضية الفلسطينية!) لا عن طريق الاحتكام لمحكمة العدل الدولية، لكن الذي حدث في هذه الحالة كما في حالات سابقة أنه عندما تفشل الأطراف المتنازعة لحل نزاعها بالطرق الدبلوماسية فإنها تلجأ للقضاء الدولي.
واستفاضت القاضية الأوغندية كثيرًا جدًا في شرح هذه النقطة حتى أنها عادت إلى جذور "النزاع" الإسرائيلي-الفلسطيني واهتمام الأمم المتحدة به منذ عام ١٩٤٧.
أما المبرّر الثاني فهو تأكيد القاضية الأوغندية أنّ جنوب أفريقيا عجزَت حتى على المستوى الظاهري عن إثبات معقولية تعرّض حقوق الفلسطينيين لخطر الإبادة الجماعية، إذ رأت أنّ عنصر النيّة، الذي هو العنصر الأساسي في اعتبار أنّ عملًا معينًا يُعّد من أعمال الإبادة الجماعية، لم يتوفّر. وفي رأيها أنّ كل ما ذكرته جنوب أفريقيا من قتل وتدمير وتهجير إنما يدخل - بالنظر لغياب النيّة المتعمّدة - في عداد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وكلا النوعين يخرج عن اختصاص محكمة العدل الدولية المعنية حصرًا بالإبادة الجماعية (ومع أنّ التقصّد لا أوضح منه في قتل عائلات فلسطينية بكاملها وفي إزاحة السكان من الشمال للوسط ومن الوسط للجنوب، لكن القاضية تعلم أنّ في هذه المرحلة الابتدائية من التقاضي غير مطلوب إثبات توّفر النيّة للحكم بالتدابير المؤقتة).
لكن على أي حال، انصّب تبرير القاضية الأوغندية رفضها جميع التدابير، على الدفع بعدم اختصاص المحكمة في نظر القضية، وهو مطلب محامي الدفاع الإسرائيلي نفسه أمام المحكمة. بل إنها تبنّت السردية الإسرائيلية، الكاذبة التي لم يثبت عليها دليل مادي واحد ولا شهادة أيٍ من الأسرى (عن قيام حركة "حماس" بالاغتصاب والاعتداء الجنسي والتجويع وعن قتل الحركة بعض الأسرى في حوزتها).
وهكذا حاولَت القاضية الأوغندية هدم الأساس القانوني لدعوى جنوب أفريقيا، ولأن ما بُني على باطل هو باطل فإنها رفضت التدابير المؤقتة المترتّبة عليها. وفازت القاضية الأوغندية بمنصب نائب رئيس المحكمة تقديرًا لموقفها!.
نأتي للقاضي الإسرائيلي أهارون باراك فنجد أنه تبنّى رأي القاضية الأوغندية في عدم وجود معقولية لتعرّض الفلسطينيين لخطر الإبادة الجماعية بسبب انتفاء ركن النيّة، وهو ركن تعذّر إثباته حتى في قضايا كبرى مثل قضية البوسنة والهرسك باستثناء ما حدث مع مسلمي البوسنة في مدينة سيبرنيتسا، وبناءً عليه ذهب القاضي الإسرائيلي مثل القاضية الأوغندية إلى أنّ القانون الدولي الإنساني هو الإطار الأنسب لتحليل الوضع في غزّة وللتعامل مع ما يلحق بالمدنيين من خسائر أثناء الحروب، وليس اتفاقية الإبادة الجماعية. لكنه على العكس منها أبدى تعاطفًا، كقاضٍ وكإنسان ولو ظاهريًا على الأقل، مع أهل غزّة بسبب كل ما حاق بهم من موت ودمار، وإن أشار لغياب أدلّة دامغة كتلك التي قدّمتها جامبيا ضد ميانمار، وشكّك في الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة التابعة لـ"حماس".
وأكّد القاضي الإسرائيلي ما كرّره القاضي الألماني عن أنّ إسرائيل كدولة عانى شعبها من جريمة الإبادة الجماعية لا يمكن لها أن تكررها، ومزج الخاص بالعام عندما روى شهادته كطفل على الهولوكوست في ليتوانيا، واستخدم مبالغات من نوع أنّ الحمض النووي للديمقراطية في إسرائيل لم يتغيّر وأنّ كل جندي إسرائيلي يحمل وراء ظهره حقيبة بها قواعد القانون الدولي (ولا يدري المرء كيف يتجاسر قاضٍ على تجاهُل ما رأيناه بعيوننا من طرد نزلاء غُرَف العناية المركّزة وإطلاق النار على الأطفال المتحصّنين بالمدارس).
مجرد مثول إسرائيل أمام القضاء الدولي يعطي أملًا في مستقبل ينتصر فيه الحق على القوة
أما فيما يخّص تصويته لصالح التدبير الثالث الخاص بمنع إسرائيل التحريض المباشر والمعاقبة عليه، ذكر أنه فعل ذلك على أمل أن يساعد هذا التدبير في تخفيف التوتّر والحدّ من الخطابات الضارة، منتقدًا التصريحات غير اللائقة والمهينة لبعض المسؤولين الإسرائيليين التي وإن كانت لا تُعّد قرينةً على توفّر نيّة الإبادة، إلا أنها تثير القلق. وفيما يخص تصويته لصالح التدبير الرابع المتعلّق بالمساعدات الإنسانية، ذكر أنه فعل ذلك على أمل تخفيف عواقب النزاع على الفئات الأكثر ضعفًا، مع علمه كما قال في موضع آخر بقيام "حماس" بتخزين تلك المساعدات لأغراضها الخاصة.
أما أطرف ما ذكره القاضي الإسرائيلي فهو قوله إنّ جنوب أفريقيا لو استجابت لدعوة إسرائيل للتشاور معها بدلًا من اللجوء للمحكمة لكان يمكن لذلك أن يفضي لمحادثات دبلوماسية مثمرة (وكأن ثلاثة وثلاثين عامًا لم يمروا على مؤتمر مدريد للسلام).
ما زال هناك عمل كثير ينتظر البت النهائي في دعوى جنوب أفريقيا، لكن مجرد مثول إسرائيل أمام القضاء الدولي وهي التي تضرب بقواعد القانون الدولي عرض الحائط، يعطي أملًا في مستقبل ينتصر فيه الحق على القوة.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")