تتلخص العناوين العامة للصفقة، في توقيع الحكومة المصرية لاتفاق مع شركة أبو ظبي القابضة، تستحوذ الشركة بموجبه على حقوق تطوير مشروع رأس الحكمة، لإنشاء مساحات سكنية وتجارية وترفيهية ومرافق سياحية ومنطقة حرة ومنطقة استثمارية، على مساحة 170,8 مليون متر مربع، مقابل 24 مليار دولار، بواقع 140,5 دولار للمتر المربع.
وصرّح رئيس الوزراء المصري بأنّ مصر ستستفيد بـ35 مليار دولار سيتم ضخها إلى مصر خلال شهرين، وأنّ ذلك هو أضخم استثمار أجنبي مباشر يدخل لمصر في سنة واحدة، وأنّ إجمالي الاستثمارات التي سيتم ضخها لتنمية مشروع مدينة رأس الحكمة يبلغ 150 مليار دولار طوال مدة المشروع التي لم يحددها.
طريقة رد الـ11 مليار قد تشعل التضخّم
تم الإعلان عن المشروع، بصورة مبهمة يمكن أن توحي لغير الاقتصاديين، أنّ الـ35 مليار دولار التي تم الحديث عن دخولها لمصر، سوف تدخل لخزائن الحكومة المصرية. لكن ما سيدخل للدولة هو 24 مليار دولار خلال شهرين، بينما الـ11 مليار دولار الباقية هي قيمة ودائع إماراتية موجودة فعليًا في البنك المركزي المصري وسوف يتم سدادها للجانب الإماراتي بالجنيه المصري. وبذلك تتخلّص الحكومة من عبء توفير ذلك المبلغ بالدولار لسداده للجانب الإماراتي.
لكن الكيفية التي ستسدد بها الحكومة المصرية قيمة الـ11 مليار دولار بالجنيه المصري للشركة الإماراتية ستؤثر بقوة على استقرار الأسعار في السوق، فلو لجأت الحكومة لتقليص الإنفاق العام على بعض البنود مثل البنية الأساسية والمباني الحكومية لتوفير المبلغ بالجنيه المصري، فإنه لن يؤثر على حركة الأسعار. أما لو لجأت إلى المزيد من الإصدار النقدي، فإنّ زيادة الكتلة النقدية المتداولة سيؤدي لارتفاعات في أسعار السلع والخدمات والمزيد من تآكل دخول الفقراء والطبقة الوسطى. ووفقًا لتصريحات رئيس الوزراء المصري، فإنّ الحكومة المصرية ستحصل على 35% من أرباح هذا المشروع، طبقًا لشروط محددة والتزامات وطبيعة معينة، ولم يوضح تلك الشروط والالتزامات!
هذا النوع من الصفقات هو حيلة حكومة عاجزة تبني استراتيجيتها الاقتصادية على بيع الأصول
والنموذج القريب لهذه الصفقة، هو عقد امتياز إنشاء قناة السويس في القرن التاسع عشر، حيث منحت مصر الأرض، والتزمت بتوريد أربعة أخماس العمال، مقابل الحصول على نسبة من أرباح الشركة، على أن تعود الشركة كليًا إلى مصر بعد 99 عامًا. لكن في صفقة رأس الحكمة، تحصل الحكومة على مقابل للأرض (24 مليار دولار)، ونسبة من الأرباح، وسيظل المشروع مملوكًا للشركة الإماراتية بشكل نهائي ومفتوح، وستنتقل ملكية جانب كبير منه إلى ملّاك العقارات والشركات التي سيتم إنشاؤها.
وهذا يعني بشكل واضح، أنّ الصفقة في جوهرها عبارة عن بيع مشروط بالحصول على جزء من أرباح المشروع. وحتى تلك الأرباح لا يمكن التحكّم في صدقيّة حساباتها، لأن مصر لا تملك رقابة على حسابات الشركة، وفقًا لما هو معلن على الأقل. ويمكن للشركة أن تبالغ في مصروفاتها، لتقليل أرباحها التي ستدفع نسبة منها للحكومة المصرية، وهو نمط سلوكي عالمي للشركات من هذا النوع. ولا توجد آلية لرقابة القيود المالية للشركة. وبالتالي فإنها هي التي ستقرر عمليًا ما ستدفعه لمصر!
وهذا البيع لا علاقة له بأي إنجاز، فالإنجاز الحقيقي هو أن تقوم الحكومة بتنمية وتطوير منطقة رأس الحكمة واستغلالها لصالح الأمّة، سواء تم ذلك من خلال الدولة، أو من خلال اكتتابات عامة لبناء مشروعات خاصة يملكها حملة الأسهم من المصريين. فتلك الطريقة وحدها هي التي تحقق التنمية الوطنية المستقلة وتحفظ أرض الأمّة وإمكانياتها السياحية لشعب مصر وحده.
أما استحواذ الأجانب عليها، واستغلالهم لإمكانيات مصر السياحية كما حدث في الصفقة مع الإمارات، فإنه سيخلق نزيفًا للعملات الحرّة، عندما تبدأ تلك الشركة في تحويل أرباحها للخارج. وهذا النوع من الصفقات هو مجرد استهلاك للأصول غير القابلة للتعويض أو التجديد، وهو حيلة حكومة عاجزة تبني استراتيجيتها الاقتصادية التي أعلنتها من خلال وثيقة سياسة ملكية الدولة، على بيع الأصول، سواء كانت إنتاجية أو خدمية، كما حدث في بيع حصص المال العام في العديد من الشركات أو البنوك، أو كانت عقارية كما حدث في هذه الصفقة والصفقات المشابهة لها حيث تباع أرض الأمّة وأصولها العقارية!
الإعلام الحكومي يعيد إنتاج فوضى مؤتمر شرم الشيخ
رافق الصفقة إعصار إعلامي حكومي للترويج لها باعتبارها إنجازًا حكوميًا، وهي صفقة لا علاقة لها بالإنجاز، بل بالبيع وشروطه. ويذكّرني هذا الأمر بفوضى البيانات والحسابات التي وصلت لمستوى خيالي في مؤتمر شرم الشيخ عام 2015 عندما أجمعت صحف الدولة والصحف الخاصة على أنّ التعاقدات الاستثمارية التي تمّت في ذلك المؤتمر بلغت 175,2 مليار دولار. ووقتها كتبتُ في "الأهرام" أنّ ذلك غير صحيح وأنّ هناك فارقًا بين التعهدات التي يمكن ألا تتم، والتعاقدات الملزمة، وتعامَل البعض مع ما كتبتُه على أنني أطفئ شموع الفرح، لكن الواقع أثبت صحة ما كتبتُه فلم تزد الاستثمارات الأجنبية المباشرة على 6,9، 7,9، 7,7 مليار دولار في الأعوام 2015/2016، 2016/2017، 2017/2018 على التوالي.
والمشكلة أنّ هذا النمط من الإعلام الترويجي لكل ما هو حكومي سيشجع الحكومة على المضي قدمًا في المزيد من بيع أصول وأراضي الأمّة المملوكة لكل أجيالها باعتبارها إنجازات. ويدور الحديث حاليًا عن صفقة مماثلة لدولة خليجية أخرى في منطقة رأس جميلة في شرم الشيخ. وهذا النمط عمومًا هو حيلة العاجز عن توفير العملات الحرّة من العمل والإنتاج والتصدير فيلجأ لاستنزاف أرض الأمّة في شراكات استثمارية لا يقدّم فيها سوى تلك الأرض ليحصل على الأموال مقابلها، ويا له من إنجاز!
إعادة إنتاج نمط الاستثمار الذي أنتج الأزمة الاقتصادية
يُعد نمط الاستثمار الذي سيتم تنفيذه من خلال الشركة الإماراتية، هو النمط نفسه الذي أنتج الأزمة الاقتصادية الراهنة في مصر، أي الاستثمار العقاري والسياحي، في حين أنّ جوهر الأزمة الاقتصادية الراهنة في مصر، يتعلّق بضعف قطاع الصناعة التحويلية، وعجزه عن إنتاج ما تحتاجه السوق المصرية، التي تستوفي تلك الاحتياجات بالاستيراد من الخارج، بكل ما يخلقه من عجز تجاري، وما يترتب عليه من اقتراض خارجي، يؤدي لتعريض سعر صرف الجنيه المصري لضغوط قوية.
جوهر الأزمة الاقتصادية يتعلق بحرمان الدولة المدنية من فوائض الشركات العامة المملوكة للأجهزة العسكرية والأمنية
كما يتعلق جوهر الأزمة أيضًا بعدم توفيق السلطة في خياراتها الاستثمارية، حيث ركزت على البنية الأساسية والقصور الرئاسية والعقارات الحكومية، بصورة تتجاوز احتياجات الاقتصاد المصري وقدرته على التمويل، مما أدى للاقتراض من الخارج بأحجام غير مسبوقة في التاريخ الاقتصادي لمصر، وأنتج أزمة مديونية خانقة ومؤثرة سلبيًا على سعر صرف الجنيه المصري وعلى الاستقلال الاقتصادي والسياسي بما جعل الحكومة تتجه لبيع أرض الأمّة في شراكات استثمارية مع الأجانب.
كما أنّ جوهر الأزمة الاقتصادية الراهنة يتعلق بحرمان الدولة المدنية، من فوائض الشركات العامة المملوكة للأجهزة العسكرية والأمنية، وحرمانها من عائد بيع الأراضي العامة أو استثمارها كما حدث بالنسبة للعاصمة الإدارية، وحرمانها أيضًا من حصيلة الضرائب، التي يعفي القانون شركات جهاز الخدمة الوطنية منها، مما يقلل الإيرادات العامة، ويفاقم عجز الموازنة العامة للدولة، وما يترتب عليه من اقتراض محلي وخارجي. وبالتالي فإنّ معالجة الأزمة الاقتصادية الراهنة، يجب أن يُركّز على معالجة هذه الأمور، بتعديل التوجهات الاستثمارية وتغيير القوانين، وليس باللجوء لبيع أرض الدولة للأجانب في شراكة استثمارية عقارية وترفيهية لا يحتاجها الاقتصاد المصري المتخم بفائض عقاري ضخم كامل التشطيب ولا يُستخدم (2 مليون مبنى متعدد الشقق) وفقًا للتعداد الأخير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء!
صحيح أنّ الدولة التي تفتح سوقها للاستثمار الأجنبي بشكل شامل وعام، لا يكون لها حق اختيار نوع الاستثمارات الأجنبية التي تتدفق إليها، لكنها تستطيع قصر تقديم الأراضي ومنح الشروط التفضيلية للاستثمارات التي تتوجه للمجالات التي تحتاجها الدولة أكثر من غيرها. وإذا كان اختيار مشروع رأس الحكمة العقاري-السياحي، مرتبطًا بخبرات المستثمرين الأجانب من دولة الإمارات، فإنه مرتبط أيضًا بخيارات الحكومة التي قررت بيع الأرض لهم، والتي لم يعد لديها لمعالجة أزماتها وضعف كفاءتها في إدارة الاقتصاد، سوى بيع أرض الشعب بأجياله الراهنة والقادمة، لتقايض عليها في الشراكات الاستثمارية مع الأجانب للحصول على بعض الأموال حاليًا وفي المستقبل، بدلًا من أن تقيم هي المشروعات لاستثمارها، سواء بصورة مباشرة، أو باكتتابات لبناء مشروعات خاصة يملكها حملة الأسهم أو السندات المضمونة العائد بالعملة المحلية، أو بالدولار والعملات الحرّة للمصريين العاملين بالخارج.
النزيف الدولاري القادم
من البديهي أنّ أي استثمار أجنبي هو ملك للأجانب الذين ضخوه، يعني ليس كومة من الدولارات أُلقيت على مصر. وسوف يترتب على ذلك الاستثمار عندما يكتمل ويبدأ العمل وتحقيق الأرباح، أنّ هؤلاء الأجانب سيبدأون في تحويل أرباحهم للخارج بالدولار، أو بالعملات الحرّة الرئيسية، مما سيشكل ضغطًا على سعر صرف الجنيه المصري.
الاستثمار الأجنبي المباشر مهم لمصر لكن لا بد من اختيار الاستثمارات التي تتوجه للصناعات التحويلية
وقد تزيد أرباح الأجانب التي يتم تحويلها للخارج في صورة دولارات، عن التدفقات الجديدة للاستثمارات المباشرة مما يخلق أزمة طويلة الأجل للجنيه المصري وسعر صرفه بكل تبعات ذلك على الأسعار والدخول الحقيقية ومعدل الفقر. والأمر ليس متعلقًا باحتمالات الحدوث في المستقبل، إذ إنّ الوضع الراهن يجسّد ذلك في ظل عمليات الخصخصة التي توغل فيها نظام الرئيس السيسي، فميزان دخل الاستثمار حقق عجزًا بلغ 17,3 مليار دولار عام 2022/2023، في حين بلغ صافي تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العام ذاته نحو 10 مليارات دولار.
أي أنّ صافي نزيف العملات الحرّة للخارج في مجال الاستثمارات بلغ 7,3 مليار دولار في العام المالي المذكور. فهل يعني ذلك رفض الاستثمار الأجنبي المباشر؟ بالعكس هذا الاستثمار مهم لمصر في اللحظة الراهنة، ولكن بما أنّ له ثمنًا باهظًا ستدفعه مصر لآجال طويلة، فإنه لا بد من اختيار الاستثمارات التي تتوجه للصناعات التحويلية بما فيها الصناعات الزراعية والصناعات عالية التقنية لإنتاج بدائل للواردات وللتصدير بصورة تُمكّن مصر من تحسين ميزانها التجاري وهو نقطة الضعف الرئيسية في الموازين الخارجية، والمسبب الرئيسي للضغوط التي يعاني منها الجنيه المصري وتؤدي لتدهوره بكل تبعات ذلك التدهور.
(خاص "عروبة 22")