تقدير موقف

الجنيه المصري والكرامة الوطنية (2/2)

إنّ مشكلات الجنيه المصري أسبابها عديدة بعضها متعلّق بأزمات خارجية وبعضها متعلّق بعيوب هيكلية في الاقتصاد المصري، وتعسّر إطلاق تنمية ذات طابع إنتاجي تصديري وبعضها متعلّق بالتوسّع في الاقتراض والإنفاق على مشاريع البنية التحتية العملاقة، وهي عوامل جرى التطرق لها كثيرًا، ولكن يظل التعامل مع سعر الجنيه باعتباره غاية في حد ذاته وليس وسيلة لتحقيق الأهداف الاقتصادية الكلية، مشكلة متعمقة ومغروسة بالتركيبة الاجتماعية والثقافية والسياسية المصرية.

الجنيه المصري والكرامة الوطنية (2/2)

فما زال أنصار كل عهد يعايرون خصومهم من مؤيّدي العهد التالي بأنّ قيمة الجنيه، في عهدهم المفضّل الأقدم كانت أكبر، وكثيرًا ما يتحدث أنصار الملكية عن أنّ قيمة الجنيه التي كانت تفوق الجنيه الإسترليني (حيث كان يساوي 0.9 جنيه مصري عشية الحرب العالمية الأولى)، متناسين أنّ أغلب فلّاحي مصر الذين كانوا غالبية السكان في ذلك العهد كانوا يعيشون على الكفاف، وساقهم الاحتلال الإنجليزي بالقوة لميادين القتال في بلاد الشام.

والحقيقة أنّ أغلب عملات العالم انخفضت أمام الدولار، خلال الفترة الزمنية نفسها بما فيها الجنيه الإسترليني نفسه، والأخير رغم كونه ما زال أعلى قيمة من الدولار، فإنّ هذا لا يعني أنّ الاقتصاد الإنجليزي أقوى من نظيره الأمريكي.

إذا نُفّذت إصلاحات اقتصادية ومالية ونقدية حاسمة فإنّ ذلك قد يجعل مصر بيئة جاذبة بشدة للاستثمار

إنّ هدف السياسة النقدية ليس تثبيت العملة أو زيادة قيمتها أو تحديد سعر معيّن لها، كما قال القيادي المصرفي المصري هشام عز العرب، ولكن هدف السياسة النقدية هو الوصول لسعر منطقي للعملة المحلية يراعي المؤشرات الاقتصادية والعرض والطلب، بما يضمن توافر العملات الأجنبية للطلب الشرعي والطبيعي، وعدم خلق سوق سوداء مع الجمع بين هدفين يبدوان متناقضين، هو تقليل التضخم قدر المستطاع، وفي الوقت ذاته، تحسين تنافسية المنتجات المحلية أمام نظيراتها الأجنبية، مع التسليم بأنّ الهدف الأخير لا يتحقق فقط من خلال تحرير سعر العملة، بل عبر حزمة متكاملة من السياسات ظلت مفتقدة في مصر على مدار عقود.

إنّ أزمة الاقتصاد والجنيه المصري الحالية، تحمل في طيّاتها كثيرًا من الفرص، فإذا نُفّذت إصلاحات اقتصادية ومالية ونقدية حاسمة تفضي إلى الوصول لسعر منطقي للجنيه، مع تحسين البيئة للاستثمار الأجنبي والمحلي، فإنّ ذلك قد يجعل مصر بيئة جاذبة بشدة للاستثمار.

فالاقتصاد المصري رغم كل مشكلاته ما زال واحدًا من أكثر الاقتصادات قدرة على الإنتاج بالمنطقة، يضاف لذلك موقع مميّز وأيدٍ عاملة رغم كل مشكلاتها ماهرة، وباتت الآن رخيصة بشكل ينافس القلّة القليلة من الدول المنتجة صناعيًا القريبة من مصر مثل المغرب وتركيا، وجنوب أفريقيا.

يزيد من جاذبية مصر سوق محلي ضخم والقرب من مصادر الأموال والطاقة بالخليج، مع وجود سلسلة واسعة من اتفاقات التجارة الحرة التي تربط مصر بالأسواق الأوروبية والعربية وعدد من الأسواق الأفريقية.

ليس من قبيل المبالغة في التفاؤل القول إنّ كثيرًا من النهضات الاقتصادية، حدثت عقب أزمات عملة أسوأ من تلك التي تواجهها مصر، مثلما حدث مع روسيا وتركيا وإندونيسيا في التسعينيات.

وقد تظل المعضلة الأكبر أمام المواطن وصانع القرار، هو تأثير الإصلاحات المطلوبة على التضخم ولا سيما إشكالية دعم الطاقة التي فرضت نفسها مجددًا بعد تراجع الجنيه، وهي مسألة تحتاج لمعالجة دقيقة عبر زيادات حذرة وتدريجية في أسعار الطاقة بالتزامن مع تعزيز ثقافة ترشيدها، والأهم توسيع ثقافة استخدام المواصلات العامة من قبل الطبقة الوسطى مع تحسينها وجعلها أكثر جودة وشمولية.

الطبقة الوسطى ستكون أكبر المتضررين من أي تقليل للدعم

ولقد قطعت مصر شوطًا كبيرًا في الوقت الحالي في اتجاه مشروعات النقل الجماعي الكبرى، وهي تحتاج للاستمرار في هذه السياسة وترشيدها بما يتلائم مع ضغوط الأزمة، والاحتياجات الأكثر إلحاحًا، كما تحتاج إلى مقاربة جديدة في المواصلات العامة تعطي دورًا أكبر للمحليات لبناء شبكات نقل الركاب الخاصة بها وكذلك المجتمع المدني والأهم شركات القطاع الخاص الناشئة عبر التوسّع في تطبيقات الركوب الجماعي.

كل ذلك يجب أن يواكبه تفكير من قبل صانع القرار في ضرورة توسيع منظومة الدعم النقدي ليشمل الطبقة الوسطى التي هي المستفيد الأكبر من دعم الطاقة الحالي (وليس الطبقة الفقيرة)، وبالتالي ستكون أكبر المتضررين من أي تقليل للدعم.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن