وجهات نظر

قراءة في تقييم سياسات العقوبات

في تطوّر نادر وغير مطروق كثيرًا على الصعيدين الإقليمي والدولي أقدمت منظمة التحالف الاقتصادي لدول غرب أفريقيا "إيكواس" على رفع العقوبات الإقليمية عن النيجر بعد فترة قصيرة جدًا من إقرارها، وقالت المنظمة في بيانها الختامي لقمّتها المعقودة في أبوجا عاصمة نيجيريا إنّ هذه الخطوة جاءت لأسباب إنسانية بعد ٧ أشهر فقط من قرار فرض العقوبات السياسية والاقتصادية نتيجة وقوع انقلاب عسكري تم فيه عزل رئيس البلاد محمد بازوم وتحديد إقامته حتى الآن.

قراءة في تقييم سياسات العقوبات

خطوة "إيكواس" تحتاج قراءة متأنية فيما يتعلق بمدى فاعلية سياسة العقوبات التي أقرّتها الدول الغربية الكبرى ضد من تسميهم الدول المارقة ويتم استخدامها دوريًا في كل من الشرق الأوسط وأفريقيا لأسباب متنوعة، حيث ورث هذه السياسات الاتحاد الإفريقي ضد دوله التي يقع فيها انقلابات عسكرية وتغييرات غير دستورية فيما يتعلق بانتقال السلطة اعتبارًا من قمة لومي عام ٢٠٠٢.

الأسباب التي أعلنتها "إيكواس" لرفع العقوبات مرتبطة بالتأثير الإنساني السلبي على حياة مواطني دول غرب أفريقيا خصوصا النيجر، وذلك بعد قطع نيجيريا الربط الكهربي بينها وبين النيجر، ولكن يبدو لنا أنّ الأسباب غير المعلنة لقرار المنظمة مرتبطة بطبيعة إجراءات النيجر ضد سياسات العقوبات، فهي من ناحية انخرطت في تحالف سياسي وعسكري جديد مع كل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا، كما أعلنت عن نيتها الانسحاب من "إيكواس" في خطوة من المتوقع أن يتبعها فيها دول أخرى من شأنها أن تضعف "إيكواس" نفسها التي تتمتع فيها فرنسا بنفوذ قوي.

دول "إيكواس" اعترفت أنّ سياسة العقوبات غير مجدية والدول الكبرى لم تُقدم بعد على هذا الاعتراف

كما لم تسدد النيجر ديونًا مستحقة تبلغ أقل من ٣٠ مليون دولار من جملة ٦٠٠ مليون دولار هو حجم الديون للمؤسسات الدولية، وربما يكون أخطر هذه الإجراءات هي تلك المتعلقة بإلغاء قوانين تجريم الهجرة غير الشرعية وشل قدرات الدولة في مكافحتها فيما يعد خطوة هجومية على أوروبا وعلى فرنسا بالذات التي يفضّل الهجرة إليها مواطنو دول غرب أفريقيا نظرًا للروابط اللغوية والثقافية مع فرنسا.

الشاهد أنّ دول "إيكواس" اكتشفت واعترفت أنّ سياسة العقوبات غير مجدية وطرح رئيس نيحيريا بولا أحمد تينوبو أثناء قمة أبوجا ضرورة النظر والتفكير في مناهج أفريقية جديدة لمواجهة التغيّرات غير الدستورية في الدول الأفريقية.

هذا الاعتراف لم تُقدم بعد عليه الدول الكبرى التي أقرّت مثلًا عقوبات على روسيا ولم يحل ذلك دون أن تدافع موسكو عن أمنها القومي في أوكرانيا ضد الضغوط الغربية وتخوض حربًا، في منطقتنا دول وأشخاص وقعت عليهم عقوبات غربية مثلًا صدام حسين في العراق، ورغم ذلك استمر نظام صدام حسين لفترة طويلة تحت مظلة سلاح العقوبات، بينما عانى الشعب العراقي تحديات إنسانية في معيشته اليومية لحد افتقاد أبسط شروط الأمن الإنساني.

في السودان نشهد حاليًا عقوبات متدرّجة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد  مؤسسات وشركات وأشخاص من كتلتي الصراع العسكري الراهن، سواء من قوات "الدعم السريع" أو من المحسوبين على فصائل الإسلام السياسي السوداني، وعلى نظام البشير والمتهمين بالتحريض وتأجيج الصراع الراهن، ولكن دون قدرة على أن تؤثر هذه العقوبات على وقف الحرب فعلًا أو التأثير على قدرات الأشخاص أو المؤسسات المموّلة للصراع.

ويبدو لنا أنّ سياسات العقوبات من كافة الجهات الغربية باتت من باب إبراء الذمة ودليل على عدم فاعلية الإدارات الغربية واقعيًا في إنهاء الصراعات المتأججة أو التغييرات غير الدستورية أو حتى في تضييق الخناق على النظم السياسية الديكتاتورية، حيث أنهت الولايات المتحدة دورها العسكري الخارجي نظرًا لتكلفته الباهظة عسكريًا وماليًا وسياسيًا، وتصوّرت أن سياسات العقوبات وحجب المساعدات بديل يمكن أن يكون مؤثرًا، ولكن يبدو أنّ صعود أقطاب أخرى في النظام الدولي فتح الخيارات البديلة أمام الدول التي تقع عليها العقوبات، من حيث بلورة تحالفات مع أطراف مناوئة للغرب مثل روسيا والصين.

وربما تكون المخاوف من تضخم نفوذ روسيا في دول غرب أفريقيا نتيجة الفراغ الناتج عن انسحاب فرنسا، تُعدّ سببًا جوهريًا في إسقاط العقوبات على النيجر، ذلك أنّ حسابات المعسكر الغربي أنّ الانسحاب الفرنسي يمكن أن يعوّضه تأثير أمريكي، ولكن من غير المقبول أن يكون البديل روسيا.

العقوبات وحجب المساعدات من سياسات الاحتواء الاستعماري

على أية حال يبدو لنا أنه على الاتحاد الأفريقي أن يفارق سياسات توقيع العقوبات ضد الدول الأفريقية، والتي ورثها كأداة إجرائية من المناهج الغربية، كما عليه أن يراجع سياسات تجميد نشاط الدول في الاتحاد الأفريقي كعقاب على الانقلابات العسكرية، لأنها لم تثبت فاعلية على الإطلاق.

في ظني أنّ التواصل وممارسة الضغوط عبر ما يملكه الاتحاد من أدوات حالية مع المجتمع المدني الأفريقي يمكن أن يكون آلية ضغط ضد النظم العسكرية، وكذلك تعزيز سياسات التكامل الاقتصادي بين الدول الأفريقية يمكن أن يقوي مؤسسات القطاع الخاص ضد هيمنة النظم السياسية الشمولية.

علينا باختصار أن نفكر في وسائل بديلة لتعزيز فرص التحولات السياسية الآمنة في أفريقيا والتي من شأنها أن تحقق تمثيلًا متوازنًا لتنوّعنا العرقي والثقافي بديلًا عن مناهج ومقولات غربية سمحت بنهب مواردنا ولم تساهم في تقدّم مجتمعاتنا على مدى عمر دولة الاستقلال الوطني الذي يقارب ٧٠ عامًا منذ التحرّر من الاستعمار الصلب والوقوع في براثن سياسات الاحتواء الاستعماري التي من بينها سياسات العقوبات وحجب المساعدات.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن