ثقافة

عودة إلى "استشراف المستقبل العربي".. لماذا تنحازُ أميركا لإسرائيل؟

بيروت - حنان حمدان

المشاركة

سؤالٌ راود الملايين، منذ بدأت الحرب على غزّة: لماذا تنحازُ أميركا بهذا الشكل الفج الأعمى لإسرائيل رغم وقوع عشرات آلاف الضّحايا والجرحى من الفلسطينيّين المدنيين وتجويع وتشريد البقيّة منهم المحاصرين في القطاع؟ ولماذا تقوم بتزويد الاحتلال بالذّخائر والأسلحة أميركيّة الصُّنع لقتل الفلسطينيين، لتعود بعدها وتدعو إلى حماية المدنيّين، في انفصام واضح وازدواجية فاضحة بين القول والفعل!؟.

عودة إلى

الانحياز الأميركي دعمًا وتسليحًا لحرب "الإبادة الجماعية" الإسرائيلية ضد الفلسطينين، لم يكشف زيف المعايير الأميركية والغربية فيما يخصُّ حقوق الإنسان والمساواة بين حياة جميع البشر فحسب، بل عرّى أيضًا حقيقة موقف الولايات المتّحدة الأميركيّة تجاه العرب عمومًا وسياستها التسلّطية على منطقتهم وثرواتهم ومصالحهم ومصائر شعوبهم، مسخّرةً أعتى أنواع أسلحتها، العسكرية في خدمة استباحة دمائهم، والسياسية كحق النقض "الفيتو" للحؤول دون نصرة قضاياهم في مجلس الأمن الدولي.

وإن كان الموقف الأميركيّ الراهن فيما يتعلق بالحرب على غزّة، لا ينفصل عن سياقه التاريخيّ إزاء الأمّة العربية وقضيتها المركزية الفلسطينية، لكنّه بدا فاقعًا ومكشوفًا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الفائت إلى حد انكشاف الوجه الحقيقي أمام الرأي العام العالمي للمشغّل الفعلي لإسرائيل والممسك بمقبض خنجرها المغروس في قلب المنطقة العربية، بعدما تداعت آلة الحرب الأميركية إلى المنطقة لتشكيل درع عسكري مانع لانهيار الكيان الإسرائيلي واهتزاز "الدور الوظيفي" المرسوم له في سبيل إخضاع العرب وترهيبهم وتشتيت جمعهم وتقويض فرص نهوضهم بين الأمم.

"استشراف المستقبل العربي"

ومن هنا، كان لا بدّ من العودة إلى قراءة تاريخ مسار العلاقات السياسيّة العربيّة- الأميركيّة، للوقوف عند حاضرنا العربيّ، ومعرفة أين نتموضع، ولماذا يبدو الموقف العربيّ رهينة السطوة الأميركيّة؟ وللإجابة على هذه الأسئلة، بدت العودة إلى كتاب مؤسّسة الفكر العربيّ الّذي حمل عنوان "استشراف المستقبل العربيّ" (طبعة سنة 2003)، بالغة الأهمية والدلالة، انطلاقًا مما اشتمل عليه الكتاب من نقاشات لعدد من الكتّاب والمفكّرين، حول قضايا الأمّة العربيّة، مشاكلها وحاضرها ومستقبلها، وعلاقاتها فيما بينها وعلاقاتها مع الخارج، وخصوصًا مع الولايات المتّحدة الأميركيّة.

فقد خلص معظم هذه النقاشات، إلى عدّة نقاط محورية أهمُّها، أنّ ما وصلنا إليه اليوم هو بفعل أيدينا، وبأنّ علاقة الولايات المتّحدة الأميركيّة معنا كعرب تحكمها المصلحة وليس أيّ شيء آخر، وبأنّ حكامًا عربًا يتماهون مع السطوة الأميركية، لأنّ وجودهم واستمرارهم في الحكم يرتكز أساسًا على دعم الإدارة الأميركية وليس الإرادة الشعبيّة.

نخبة الحكّام تضحّي بأمن العرب جماعةً

وكان ملفتًا، طرح أستاذ العلاقات الدوليّة في جامعة سارة لورنس في نيويورك، دكتور فوّاز جرجس، تساؤلات المفكّرين والمثقفين العرب آنذاك، مثل، لماذا لا تأبه أميركا لهموم والمصالح العربيّة، لماذا تستخفّ سياستها الخارجيّة بالعرب فتسيء معاملتهم ولماذا هي متحيّزة ضد الفلسطينيّين. وهي أسئلة مماثلة لأسئلة الشارع العربيّ اليوم. 

يقول جرجس إنّ الإجابة على هذه الأسئلة، تتطلب العودة إلى جذور المسألة السياسيّة، بمعنى لماذا وصلت العلاقات بين العرب وأميركا إلى هنا؟. فقد مرّت هذه العلاقات بعدّة مراحل؛ جمعتهُما علاقة وديّة في بداية القرن العشرين حين شجّعت أميركا الشعوب المستضعفة على حقّ تقرير المصير بنفسها، فرح العرب آنذاك وانبهروا بصورة أميركا المختلفة عن صورة الاستعمار الأوروبيّ،"ليدرك بعدها العرب أنّ قوّة إستعماريّة أخرى تدوس على حقوقهم كي تصل إلى مصالحها الخاصّة" ويختفي الانبهار العربيّ وتظهر الحقيقة إلى العلن، المصلحة الأميركيّة أولًا.

ويذكر جرجس ثلاثة أحداث أساسيّة تركت أثرها في عقول العرب فيما يتعلق بالولايات المتّحدة الأميركيّة، الأوّل، عام 1947 حين دعمت أميركا فكرة تقسيم فلسطين إلى دولتين عربيّة وعبريّة، والثّاني حين تورّطت أميركا  في الصّراعات العربيّة الداخليّة محاولة كسب المعركة ضدّ الاتحاد السّوفياتي، والثّالث، حين أرادت أميركا معاقبة المتمرّدين العرب وعلى رأسهم الرئيس المصريّ جمال عبد النّاصر عام 1967 فانهزم العرب.

جميع هذه الأحداث، أوصلت العرب إلى الخلاصة نفسها: لأميركا مصالحها الخاصة التي تسعى إلى تحقيقها دائمًا، في كل مكان تتدخل فيه. هذه المصالح، هي سياسيّة وعسكريّة واقتصاديّة، والأمثلة تطول: وجود عسكريّ قويّ في دول الخليج، دعم مالي وتقنيّ لبعض الدّول العربيّة، علاقة مميّزة مع أكراد العراق وساطة في السّودان وكذلك في نزاع الصّحراء بين الجزائر والمغرب، ومصالحها اليوم تفرض عليها أن تكون ضدّ الفلسطينيّين إلى جانب القاتل والمجرم لا بل تشاركه آلة القتل الواحدة وتدعمه من أجل ذلك.

وهنا لا بدّ من الانتباه إلى أن واقع هذه العلاقة، ليس بفعل أميركيّ فقط وإنما بسبب ممارسات العرب أنفسهم، وخصوصًا حكّامه. يقول جرجس: "لطالما كان العرب ألدّ أعداء أنفسهم، فنخبة الحكّام العرب تتقن الحديث المبطّن وتضحّي بأمن العرب جماعة على هيكل مصالحها الضيّقة الصّغيرة"!

ولأجل هذا استطاع المسؤولون الأميركيّون التعاون مع الحكّام العرب بعيدًا عن الوحدة والقوميّة العربيّة من أجل تحقيق مصالحهم الخاصّة، وأميركا لأجل هذا تحديدًا تستخفّ بنا كعرب ولا تأخذنا على محمل الجدّ.

الأزمة داخليّة "بين الحاكم والمحكوم"

وهنا، دعونا نعيد سوية قراءة الظروف الخاصة التي مرّ بها الوطن العربيّ في محطات دقيقة ومصيريّة، بدايةً حين خرجت مصر من النّظام العربيّ، ووقعت اتّفاق كامب ديفيد مع إسرائيل أواخر سبعينيّات القرن الماضي، وبعدها حين قرر العراق، وهو بلد عربي، غزو بلد عربي آخر هو الكويت، وهكذا بدأ الصراع العربيّ – العربيّ، وتبدلت الأوضاع السياسيّة العربيّة – العربيّة بشكل كبير، حين شنت أميركا حربها على العراق بزعم امتلاكه أسلحة دمار شامل، واستسلمت الدول العربية للغزو الأميركي فانكشف الضعف العربيّ، وضاعت الحقوق العربية، وصولًا إلى موجة التطبيع العلنيّ الأخير مع الإحتلال الإسرائيليّ ومحاولة طمس القضية الفلسطينيّة.

المشكلة الأساس في "ضعف النظام العربيّ السياسيّ" هذا ما يتفق عليه الجميع، الأزمة داخليّة بامتيّاز، بين الحاكم والمحكوم، وبين دول الأمّة العربيّة نفسها. واليوم أكثر من أيّ وقت مضى بات الحكّام العرب مقيّدون بالدعم الخارجيّ وبخاصة من جانب الولايات المتّحدة الأميركيّة... و"لم يكن الحكّام مجرّدين وعراة أمام شعوبهم كما هم اليوم، لم تكن الهوّة يومًا بين الحكّام العرب وشعوبهم أوسع ممّا هي عليه" يقول جرجس. 

في الواقع، لا تكمن مشكلة العرب مع أميركا في الدين أو الثّقافة، كما يعتقد البعض، إنما في السياسة الخارجيّة وشعورهم الدّائم بالخسارة والإذلال السّياسيّ. وفي هذا الأمر يتحمّل العرب جزءًا كبيرًا من المسؤوليّة بسبب ضعف البنية العربيّة، فسمحوا لواشننطن بالتدخل في شؤون العرب الداخليّة والخارجيّة على حساب أمن العرب المشترك.

غياب الإرادة الجامعة

ولا يقتصر الأمر على عدم توازن العلاقات العربية – الأميركية، بل يتعداها إلى باقي الكيانات، من دول ومجموعات وتجمعات، إذ يعتبر أستاذ الدراسات الإسلامية دكتور رضوان السيّد، في الكتاب نفسه أنّ "غياب الإرادة السياسيّة العربية الجامعة، وهشاشة مؤسسة الجامعة العربيّة التي أخفقت في مناسبات مختلفة، جعل من العرب غير قادرين حتى على القيام بأيّ تنسيق مع تجمعات دوليّة أو هيئات عالميّة  على اعتبار أنهم مجموعة".

ولعلّ ما قاله عضو مجلس الشورى السعودي، دكتور عثمان الرواف، في الكتاب أيضًا، تحت عنوان "المستقبل السياسي العربي المرغوب لن يأتي إلينا ولكن علينا نحن أن نسعى للذهاب إليه" اختصر الكثير، لناحية التأكيد على أنّ "معالجة المصادمات العربية العربية والحرص على زيادة التضامن العربي لن يحدث تلقائيًا"، وأنه "لا بديل عن التدخل العلمي العقلاني الواعي لمعالجة مشاكل وتحديات الحاضر السياسي العربي"، الذي استخلص منه مجموعة من "الإخفاقات السياسية والعسكرية والتنموية" أبرزها ما يتمثّل بـ"الإخفاق الأول والأهم في تحقيق الوحدة العربية"، مشددًا على ضرورة اقتناع العرب بأنّ "التضامن هو القاعدة وليس الاستثناء" باعتباره يحقق مصلحتهم جميعًا ويجسد "استجابة أساسية لطموحات الجماهير العربية".

ولا شكّ في أنّ الأمر سيكون مختلفًا في حال استخدم العرب سلاح مواردهم الأساسيّة بشكل صحيح، وشاركت الطّبقات الاجتماعيّة الصّاعدة في النّظام والحكم، وحلّت الديمقراطيّة في عمليّة اتّخاذ القرارات... فلو حصل ذلك، لكان العرب اليوم متحّدين في مواجهة أيّ خطر خارجي.. ولتمكّنوا من منع كل هذا القتل والدمار والاستهتار بوجودهم وحقوقهم ودماء أبنائهم في فلسطين وسواها من الأقطار العربية المستنزَفة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن