انتصارات نتنياهو الوهمية

لا يمل، نتنياهو، التأكيد على تمسكه بتحقيق «النصر المطلق»، أو «الكامل»، أو «الساحق»، على حماس. ظانا إياه السبيل المثلى لبلوغ مآربه من عدوانه الحالي، والمتمثلة في: استعادة الأسرى الإسرائيليين من خلال الضغط العسكري المتواصل، الإجهاز على المقاومة الفلسطينية، تقويض تطلعات «محور المقاومة»، الحيلولة دون تكرار الهجمات على إسرائيل من غزة، الاحتفاظ بفرص التطبيع مع المزيد من الدول العربية والإسلامية.

وبينما يرى هزيمة حماس انتصارا للعالم الحر برمته، وليس لإسرائيل فحسب؛ يعتبر، نتنياهو، اجتياح رفح بريا، لاستئصال شأفة الحركة، شرطا أساسيا لإدراك نصره المزعوم. مؤكدا أن إبرام اتفاق هدنة وتبادل أسرى معها، سيؤدي فقط إلى تأخير موعد ذلك الاجتياح.

رغم الخسائر البشرية والمادية الهائلة، تسنى للمقاومة الفلسطينية انتزاع إنجازات مدوية. فعسكريا، بددت عملية «طوفان الأقصى» سردية الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر. كما أجهضت حلم إسرائيل في التوسع الجغرافي على حساب الشعب الفلسطيني وأراضيه، ونالت من صدقية نظرية الأمن، التي تأسست على إثرها دولة الاحتلال عام 1948. عبر ترسيخ الردع الاستراتيجي للجيوش النظامية المحيطة، والتكتيكي لحركات المقاومة. اعتمادا على منظومة أمنية متطورة، تتكون من جيش مدجج بأحدث المنظومات التسليحية، وأجهزة أمنية واستخباراتية عتيدة كالموساد، «الشاباك»، و«أمان». ومن ثم، أخفقت إسرائيل في أن تصبح دولة آمنة لجميع اليهود من كل أنحاء العالم كما أراد لها المشروع الصهيوني منذ أصل له، ثيودور هرتزل، في كتابه «دولة اليهود» الصادر عام 1896. فمنذ السابع من أكتوبر الماضي، تضاعفت أعداد الهجرة المعاكسة من الأراضي المحتلة إلى الولايات المتحدة وأوروبا.

كرس الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية استراتيجية استحالة تحرير الأسرى الإسرائيليين لديها بالقوة، أو ما يسميه، نتنياهو، «الضغط العسكري». فلقد توصلت دراسة علمية لجامعة «هارفارد» عام 2015، اعتمدت على التحليل الإحصائي، إلى أن نسبة نجاح عمليات تحرير الأسرى بالقوة لا تتجاوز 20% فقط. فيما أثبتت دراسة لجامعة «كامبريدج» عام 2017، اعتمدت على دراسة حالات متنوعة، انحسار تلك النسبة إلى 15% فقط، فيما انتهت دراسة بجامعة «أكسفورد» عام 2019 بعنوان: «تحرير الأسرى بالقوة: تحليل تكلفة الفائدة»، إلى أن الإصرار على تحرير الأسرى بالقوة، غالبا ما يؤدي إلى تصعيد النزاعات وتعاظم الخسائر البشرية.

منذ عام 1948 وحتى نوفمبر الماضي، لم تفلح دولة الاحتلال في تحرير أسراها لدى المقاومة الفلسطينية، أو أي دولة عربية، إلا من خلال المفاوضات. فقد تمت أول صفقة تبادل مع الجبهة الشعبية عام 1979، ثم جاءت صفقة «النورس» مع الجبهة الشعبية القيادة العامة، عام 1983. وفي أكتوبر 2011، أبرمت صفقة، جلعاد شاليط، مع حركة حماس.

في المقابل، أدى التعنت الإسرائيلي إلى إفشال صفقة مبادلة الطيار الإسرائيلي، رون أراد، الذي وقع في الأسر عام 1986، وانقطع الاتصال نهائيا مع آسريه. وفي عام 1992، رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق رابين، الإفراج عن الشيخ، أحمد ياسين، مقابل إطلاق سراح الجندي، نسيم توليدانو، وبعد انتهاء مهلة كتائب القسام، التي حددت بعشرة أيام، تم قتل الجندي. وفي عام 1994، رفضت حكومة الاحتلال مطالب حركة حماس، التي قامت بأسر الجندي، نحشون فاكسمان، حتى قتل برفقة عدد من الجنود الإسرائيليين الذين حاولوا تحريره بالقوة. وفي عام 2014، أسرت حركة حماس الجنديين، أرون شاؤول، وهدار جولدن، وفي 2016، أسرت كتائب القسام، أبراهام منجستو، وهشام السيد؛ وبينما يماطل الاحتلال في إدراك اتفاق تبادل بخصوصهم؛ يبدو مصيرهم أقرب إلى مصير، رون أراد. وخلال عدوانها الحالي على غزة، باءت محاولات إسرائيل لتحرير أسراها لدى المقاومة بالفشل.

رغم قتله عشرات الآلاف من الفلسطينيين خلال عدوانه الحالي، تكبد الاحتلال كلفة ضخمة. فعلاوة على خسائره الاقتصادية الهائلة، تؤكد المصادر الإسرائيلية أن 17% من قتلى جيشها في غزة، والذين ناهزوا الألف، قتلوا بنيران صديقة، أو حوادث عملياتية في الميدان. الأمر، الذي أرجعه خبراء إلى الخوف، ضعف التدريب على حرب المدن، سوء إدارة المعركة، فضلا عن شدة بأس المقاومة الفلسطينية. أما جيش الاحتلال، فيعزو ارتفاع أعداد قتلاه بنيران صديقة، إلى كثافة عدد قواته في الميدان، طول أمد المعارك، وقسوتها، الإرهاق، عدم الانضباط العملياتي، ونقص التنسيق بين الآلاف من قوات المشاة والمدرعات وغيرها، داخل أحياء مزدحمة.

سياسيا، تلقت دولة الاحتلال صفعات دبلوماسية وقانونية مروعة. إذ شهدت القضية الفلسطينية، منذ بداية العدوان على قطاع غزة، دعما دوليا غير مسبوق. ففي نوفمبر الفائت، أوردت صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، أن سيطرة مشاهد الدمار المفجع لقطاع غزة على منصات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، أنتجت تحولات عميقة في الرأي العام العالمي حيال القضية الفلسطينية، وفتحت شهية المجتمع الدولي لمبدأ حل الدولتين. كما استطاعت السردية الفلسطينية فضح توحش وبربرية دولة الاحتلال، وإيقاف مسيرة التطبيع العربي ــ الإسرائيلي. ونتيجة لجرائم الحرب البشعة، أضحت الانتهاكات والخروقات الإسرائيلية شغلا شاغلا لمحكمة العدل الدولية.

تختلف مقاييس الربح والخسارة في الحرب غير المتماثلة، التي تخوضها المقاومة الفلسطينية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، عن مثيلاتها في الحروب التقليدية بين الدول والجيوش النظامية. فبينما تشكل خسائر المقاومة أضعاف خسائر المحتل، لا يقوى الأخير على تحمل كلفة مواصلة الحرب. ولما كانت نتائج الحرب النهائية على الأرض، هي التى تحدد ملامح النصر والهزيمة، تغدو المقاومة الفلسطينية منتصرة، حينما تحتفظ بقدراتها، إرادتها القتالية، قياداتها، وهياكلها التنظيمية. فضلا عن إجبارها جيش الاحتلال على الانسحاب من المناطق التي وطأها، معلنة فشله في فرض واقع جديد على الأرض. إضافة إلى نجاحها في إجراء صفقة تبادل للأسرى، وفقا لشروطها، بما يمكنها من تحرير قياداتها الفاعلة، لإعطاء دفعة قوية وخبرات نضالية وازنة لسائر فصائل المقاومة. أما الاحتلال، فينتصر حينما ينجح في كسر إرادة المقاومة، نزع سلاحها، تفكيك منظومتها العسكرية وهياكلها التنظيمية، وتصفية قادتها أو توقيفهم، أو تهجيرهم إلى الخارج. وإذا استطاع احتلال القطاع مجددا، إعادة غزة إلى وضع ما قبل العام 2005. أو تمكن من تحرير أسراه بالقوة دون الاضطرار إلى إبرام صفقة تبادل مع المقاومة، حتى وإنْ قتل بعضهم.

في محاولة يائسة لادعاء النصر، وصف، نتنياهو، إنجازات جيش الاحتلال بغير المسبوقة، مدعيا تصفيته 20 ألفا من مقاتلي حماس، يشكلون أكثر من نصف قوتها الضاربة، وشل قدرة 18 كتيبة من أصل 24 على العمل. كما سعى، عبثا، إلى فرض شروط المنتصرين من خلال خطته لليوم التالي للعدوان. غير أن واشنطن نصحت، نتنياهو، الاستفادة من دروسها المستخلصة من حروبها في أفغانستان والعراق. بحيث ينفذ عمليات عسكرية نوعية دقيقة، بدلا من القصف الانتقامي العشوائي واسع النطاق، الذي يستهدف الفلسطينيين الأبرياء وأعيانهم المدنية. وإلا وقع في فخ الزهو بنصر تكتيكي، مع تلقي هزيمة استراتيجية، تتأتى من فقدان إسرائيل التعاطف والدعم الدوليين.

أمعن جيش الاحتلال في قتل وإصابة عشرات الآلاف من الفلسطينيين، تدمير الأعيان المدنية، إبادة الأخضر واليابس، وارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، شهدها ووثقها العالم أجمع. لكنه لم يدرك النصر المنشود. فلقد أظهر استطلاع للرأي، أجراه «معهد الديمقراطية الإسرائيلي»، تشكيك غالبية الإسرائيليين، في إمكانية تحقيق «النصر الكامل» على حماس. بدورهم، استبعد مسؤولون عسكريون واستخباراتيون إسرائيليون سابقون، بلوغ، نتنياهو، نصره «المطلق» على المقاومة الفلسطينية؛ مؤكدين تواضع الانجازات التي حققها جيش الاحتلال، قياسا إلى كلفتها الباهظة. ومن ثم، ناشدوا، نتنياهو، إتمام صفقة لتبادل الأسرى، تجنبا لمقتلهم. فليس أدل على إخفاقه، من عجزه عن فرض خطته لليوم التالي في غزة، والتي تستهدف تقويض المقاومة الفلسطينية، وإجهاض حل الدولتين.

("الشروق") المصرية

يتم التصفح الآن