معلوم أنّ طوماس هوبز ألهم بأفكاره بنية القانون المسطّر خلال 1650م، حيث كان العقد الاجتماعي بذرة الأساس للقوانين الليبرالية، بل صُنّف بمرتبة "الإنجيل المدني" أو "إنجيل الثورة الفرنسيةّ، إضافة إلى أنّه ساهم في تشييد الفكر الحداثي بفضل كتابه الرئيس "الليفياتان"، ويرمز الاسم إلى وحش بحري ضخم، دلالةً على السطوة والقوة، وقد استخدمه هوبز للإحالة بشكل رمزي على الدولة القوية المهيمنة ذات السلطان المطلق.
ساهم هذا التنظير في إفراز موقف مناصر للسلطة المطلقة، فالأمن ممكن التحقّق فقط إذا تخلّى الأفراد عن جزء من حرياتهم لسلطة سياسية قوية، وهو تخلّي لا يخدم السلطة السياسية بل يخدم بالأساس المصلحة العامة للأفراد.
لقد فكّر هوبز في الإنسان من منطلق عصره وشرطه النطري آنذاك، حيث إنّ السلطة المطلقة هنا التي منحها هوبز ومجموعة من الفلاسفة الحداثيين للدولة مثلت تمهيدًا لتبلور ما أسماه الفيلسوف الألماني راينهارت كوزيليك "مملكة النقد".
ولد التنوير في كنف الإطلاقية أولًا، بمنطقها المحايث أولًا ثم كهادم لها لاحقًا، وبعد سيطرة الدولة على الحروب الأهلية، اتضّح أنّ سبب نشوئها بدأ يفقد تدريجيًا قيمته، خصوصًا بعد بروز الطبقة البورجوازية، مما عزّز بالمقابل مملكة النقد التي بُني في ظلها عالم التنوير حيث تركت المسار التاريخي مفتوحًا على مسارات أخرى محتملة للنزاع بين الإنسانية: بناء دولة ليبرالية، بناء دولة اشتراكية.
يبدو المستقبل في وعينا العربي الجمعي يسكنه الخوف والتوجسات من ممارساتنا الديمقراطية
ساهم النقد في انهيار التسلسل الهرمي بين الرعايا والسيادة، وانفتاح الوعي النقدي على الفضاء العمومي بعد أن كان حبيس الفضاء الخاص.
تأسيسًا على ما سبق من تذكير برؤى نظرية تاريخية ومؤسِّسة، نتساءل: لماذا لم نبلور مَلَكة للنقد تؤسِّس تنويرًا عربيًا؟ وهل لهذا المعطى علاقة ما بالتمثل الجمعي العربي لمفهوم الدولة؟
لقد سبقت الإشارة أعلاه إلى أنّ مفهوم الدولة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياق الحداثي الغربي، وقد استلهم عربيًا جراء الحركات الإمبريالية الأوروبية وامتدادها في ما بعد التجربة الاستعمارية.
ما جرى مع الواقع العربي، أنّنا سنعاين تفاوتًا في فعالية وواقعية مفهوم الدولة، وتفاوتًا في قراءة أبعاده التاريخية، لكن يمكن القول إنّ المفهوم نفسه يحضر في التمثل الجمعي العربي بما هو صمّام الأمن والاستقرار، إذ غياب الدولة قد ينذر باللانظام وكذا انفلات الأمن إلى ما لا يُحمد عقباه، مما يجعلنا أمام قلب للمعادلة التي قدّمها الفيلسوف طوماس هوبز من خلال مفهوم العقد الاجتماعي، وبيان ذلك كالآتي.
إذا كان العقد هو افتراض لانتقال الإنسان من حالة الطبيعة التي يسودها "حرب الكل ضد الكل" حسب هوبز، نحو الحالة المدنية التي تمنح الأفراد مأمنًا من الخوف والفزع التي كانت تسود الحالة الأولى، بما هو انتقال ظرفي يُحقّق انتقالًا نحو واقع أفضل عما هو كائن، لأنّ الوضع الغربي كان يعيش على وقع الحروب الدينية والأهلية ممّا استلزم الدعوة لوجود سلطة مطلقة تحقق الأمن والاستقرار، ــ إذا كان كذلك إذن ــ فإنّ مفهوم الدولة في الذهن العربي لا يعكس بالضرورة هذه الانتقالية لصيرورة تصاعدية كما جرى في المجال الأوروبي، بل تعكس نوعًا من الإبقاء على حالة راهنة.
يبدو المستقبل في وعينا العربي الجمعي، يسكنه الخوف والتوجسات من ممارساتنا الديمقراطية التي قد تنذر بزعزعة استقرار الدولة، مما قد ينتج عنه من فوضى قد تهدّد الاستقرار الوطني.
إضافة إلى هذه المعضلة، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أيضًا أنّ الصراع هنا ليس صراع أفراد، بل هو صراع إيديولوجيات ومنطلقات فكرية مختلفة تشكل الوجه العام للدولة الوطنية.
إنّ هذه الغاية التي تطغى بشكل عام على تعريف الدولة في الوعي الجمعي تجعل كل الحيثيات السلبية من فساد، فقر، تهميش، تهريب الأموال، الشطط في استعمال السلطة، اتساع الفوارق الطبقية، الاستبداد، أمورًا "مقبولة" نوعًا ما، ويمكن تحملها، لأنّ ما يهدّد المواطن في حال غياب الدولة هو الخراب والدمار والحرب، فيتم تهميش المطالب التي تشكل محرك الدولة نحو النهضة والتقدّم بحجة تحقيق المطلب الأهم وهو الاستقرار الآني.
هنا بالذات، يتم تأطير الحاضر بسقف مستقبلي محدّد في استمرار الأمن عبر استمرار قوة الدولة، مما يفرز سلطة أحادية توجه كامل اهتمامها لاستمرار الوضع السياسي، ولتحقق هذه الاستمرارية تعمل على تسقيف الوعي النقدي، أو جعله يرادف في التمثل العامي دلالة سلبية ترادف الفتنة والتفرقة.
الثقافة النقدية تعكس دينامية عقلية لتحريك عجلة المسار النهضوي المؤسِّس للهوية السياسية
هذا لا يفيد غياب النقد في التمثل الجمعي، لكن حضوره يظل رهين الفضاء الخاص دون الإفصاح عنه في الفضاء العام، مما ينتج عنه تعطيل للوعي النقدي الموجّه للمسار الإصلاحي والنهضوي للدولة، وهو تعطيل يكسو في مستواه العام تبريرات دينية وإيديولوجية، والحال أنّ استمرار هذا التوجس المستدام في الوعي الجمعي، يصبّ في استمرار طبيعة السلطة السياسية للدول العربية.
إنّ الثقافة النقدية لا ترادف بالمجمل الهدم أو اتخاذها بالضرورة موقعًا معاكسًا أو مضادًا للسلطة، كما أنّه لا يعني هدم أو نفي لها، بقدر ما يعكس دينامية عقلية لتحريك عجلة المسار النهضوي المؤسِّس للهوية السياسية، لهذا فإنّ انفتاح مكونات الدولة على النقد، بشكل عقلاني وفي إطار الفضاء العمومي، أمرٌ بالغ الأهمية في استمرار وتقوية الدولة الوطنية.
(خاص "عروبة 22")