وقد بدا الأمر لافتًا حين استمعنا لتصريحات رئيس جمهورية البرازيل، والتي لم يجرؤ زعيم عربي واحد على أن يقولها، حين وصف الجرائم الإسرائيلية في غزّة بأنها تشبه جرائم هتلر والنازية، واستخدم الرجل مفردات قوية في إدانة العدوان الإسرائيلي، وجاء موقف جنوب أفريقيا التي ذهبت لمحكمة العدل الدولية تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة وهو موقف لم تقدم عليه أي دولة عربية أخرى.
والحقيقة أنّ التضامن بالدعاء موقف ديني وأخلاقي لا اعتراض عليه بل ومحبب بشرط ألا يكون حجة لعدم "الأخذ بالأسباب" ونقل الجانب الإيماني إلى فعل في الواقع، إنما الاكتفاء به دون القدرة على تقديم شيء يُذكر على الأرض لن يفيد.
لقد كشفت غزّة محدودية القدرات العربية المدنية والشعبية والسياسية، والفارق بين التعاطف الفطري مع الشعب الفلسطيني وبين القدرة على التأثير، والأمثلة في ذلك كثيرة فهناك أولًا القيود المفروضة على العمل الشعبي والمدني المستقل بحيث صار الدعاء على إسرائيل في مواقع التواصل الاجتماعي هو الصورة الأبرز لدعم الشعب الفلسطيني، وغابت التظاهرات الشعبية أو غيّبت من بلد مثل مصر، وظلّت الوقفات الاحتجاجية في بلدان مثل تونس ولبنان والكويت تمثل أحد مشاهد الاحتجاج والرفض ولكن لا نستطيع القول إنها وصلت "لطوفان شعبي" يغيّر في المعادلات السياسية القائمة.
الفرصة التي جاءت إلى مصر للضغط على إسرائيل بحكم حدودها المشتركة مع غزّة قد أُهدرت
والحقيقة أنّ هذه القيود أدت إلى غياب أي تواصل عربي يُذكر مع التحركات العالمية الداعمة للشعب الفلسطيني سواء على المستوى الشعبي من خلال قادة الحركات السياسية الداعمة للحقوق الفلسطينية أو على المستوى الرسمي من خلال الغالبية العظمى من الزعماء غير الغربيين المنتخبين ديمقراطيًا من البرازيل إلى شيلي إلى جنوب أفريقيا.
وقد استخدم قادة هذه الدول لغة مدنية وقانونية قوية وصارمة ضد إسرائيل وأدانوها في كل المحافل الدولية وأمام الرأي العام الداخلي رغم الهجمات والضغوط الإسرائيلية، في حين بدا صوت الزعماء العرب خافتًا وغير مسموع ولا مؤثّر.
إنّ الفرصة التي جاءت إلى مصر للضغط على إسرائيل بحكم حدودها المشتركة مع غزّة قد أُهدرت، فكل محاولات المنظمات الإنسانية الدولية مثل أطباء بلا حدود وغيرها لدخول القطاع باءت بالفشل كما أنّ طلب عدد من الصحفيين غير العرب الدخول إلى قطاع غزّة على مسؤوليتهم الشخصية رُفض وكذلك حدث مع مئات النواب وممثلين عن جمعيات أهلية وروابط شعبية.
والحقيقة أنّ ردع إسرائيل وإيقاف جرائمها لن يتحقق إلا في لحظة تستطيع فيها الضغوط الشعبية أن تؤثّر في معادلات الحكم والسياسة، وهو أمر لم يحدث بعد، أما الدول الديمقراطية غير الغربية مثل شيلي والبرازيل وبوليفيا التي وصل فيها اليسار إلى السلطة في انتخابات حرّة فقد سحبوا سفراءهم من تل أبيب وقطع بعضهم علاقاتهم معها، لأنها نظم حكم وصل قادتها بأصوات الناخبين وليس بانقلاب عسكري ولا بشعارات جوفاء لا علاقة لها بالواقع المعاش.
أما جنوب أفريقيا الديمقراطية فقد وصفت وزيرة خارجيتها ما تقوم به إسرائيل بأنه جرائم حرب وسحبت سفيرها من هناك، ثم قررت أن ترفع قضية ضدها في محكمة العدل الدولية تتهمها بارتكاب جرائم إبادة جماعية، ولم تخشَ من همجية رد الفعل الإسرائيلي الذي كثيرًا ما حرّض المجتمع والمؤسسات الدولية على أي دولة تعارض سياسة إسرائيل.
إيمان النخب الحاكمة والمعارضة في جنوب أفريقيا بتاريخهم الوطني وبقيمة البلد وحضورها وتأثيرها الدولي يرجع لتمسّكها بنموذجها في التحرّر الوطني وإنهاء نظام الفصل العنصري الذي تكرره إسرائيل، وفي بناء دولة مواطنة مدنية مستقلة.
ورقة الضغط الأساسية في وجه آلة الحرب الإسرائيلية أصبحت الآن في يد الرأي العام الشعبي في البلاد الديمقراطية
أما بلدان مثل تركيا وماليزيا واندونيسيا فهي تعيش في ظل نظم ديمقراطية شبة مكتملة ولذا علينا ألا نندهش أنها اتخذت على مستوى الخطاب الرسمي وعلى مستوي الدعم الشعبي والجماهيري مواقف أكثر جرأة وقوة من مواقف مجمل النظم العربية.
ورقة الضغط الأساسية في وجه آلة الحرب الإسرائيلية أصبحت الآن في يد الرأي العام الشعبي في البلاد الديمقراطية، والنظم العربية غير الديمقراطية كان حضورها باهتًا ومحدودًا في التأثير على مجريات الحرب في غزّة.
يقينًا التضامن الأضعف الذي جرى مع الشعب الفلسطيني هو الذي أبداه العالم العربي، فلا توجد تحركات شعبية متواصلة مع نظيرتها التي تجري في دول العالم بما فيها الدول الإسلامية غير العربية، كما أنّ هناك القيود التي فرضتها النظم العربية على أي تحركات شعبية، باستثناء المغرب رغم أنّ سلطتها أقامت علاقات فاترة مع إسرائيل، كما أنّ الضغوط السياسية والحضور القانوني والإعلامي العربي على الساحة الدولية بدا غائبًا إلا من بعض التصريحات لإبراء الذمة.
المفارقة أنّ العالم العربي المليء بشعارات دعم القضية الفلسطينية والذي لا يتوقف حديث حكامه ومحكوميه عن الأخوة العربية والتضامن العربي والقومية والدين، قدّم الخبرة الأضعف في التضامن الفعلي مع الشعب الفلسطيني، وهي أزمة لا بد من الاعتراف بها، صحيح أنّ المسؤولية الأساسية تقع على النظم القائمة، إلا أنّ علينا أن نقرّ أنّ هذا أصبح حالنا وحضورنا الشعبي وتأثيرنا الدولي.
(خاص "عروبة 22")