الحياد الذي ترفضه واشنطن

تبقى العلاقات الخليجية مع الولايات المتحدة الأمريكية ركيزة أساسية ومهمة للامن والاستقرار في المنطقة التي تموج بالتهديدات والصراعات والحروب منذ عقود طويلة، ويبقى الأمل في تصحيحها واعادتها الى مسارها الذي يؤكد عمق العلاقات التاريخية والامنية في اطار التطورات التي تسعى اليها الولايات المتحدة من اجل علاقات جديدة في الشرق الاوسط تفتح الابواب لإسرائيل في المنطقة بعد أن قطعت شوطًا مهمًا في إقامة علاقات سياسية مع عدد من دول مجلس التعاون.

وتأتي اهمية العلاقات الخليجية الامريكية في ضوء علاقات تاريخية قديمة بدأت على ظهر الطراد كوينسي عندما وقّعت مذكرة التفاهم باللغتين الإنجليزية والعربية من قبل العقيد وليم أدي وزير الخارجية الأمريكي ويوسف ياسين نائب وزير الخارجية السعودي. وقد وقع النص العربي الملك عبد العزيز آل سعود والنص الانجليزي وقعه الرئيس روزفلت وذلك في فبراير 1945 في البحيرات المرة بالمملكة المصرية آنذاك. لذلك فإن حركة التاريخ السياسي بين الجانبين تؤكد بأنه لابد من عودة هذه العلاقات الى مسارها الطبيعي مهما حاولت بعض الايادي في البيت الابيض والخارجية الامريكية تشويه مسار هذه العلاقات القائمة على مصالح حيوية متبادلة منذ أكثر من 70 عامًا.

لذلك فان القراءة الدقيقة لنتائج اجتماع الحوار الاستراتيجي الوزاري الخليجي الروسي المشترك الذي عقد في موسكو الأسبوع الماضي، والبحث المتعمّق لما تم التوصل إليه في البيان الختامي المشترك، يؤكد بأن هناك (تطويرًا) للمفهوم الخليجي الاستراتيجي الجديد الذي يضع في الاعتبار المصالح والاهداف الخليجية العليا وجميع الأفكار والهواجس الأمنية التي تهم دول مجلس التعاون بالتشاور وتبادل وجهات النظر مع كافة القوى الدولية حول القضايا التي تمس المنطقة حفاظًا على أمنها واستقرارها السياسي في ضوء حقيقتين هما:

1- سعي موسكو منذ وقت طويل للعب دور أمني أكبر في الخليج العربي وطَرحها لهذا الغرض مبادرة او صيغة للامن والتعاون في المنطقة عام 2009 إلا أنها قررت الكشف عن آخر صيغة لها في صيف 2019، حيث اوضحت إن الهدف هو تأسيس منظمة للأمن والتعاون تكون مهمتها الإشراف على أمن المنطقة، وتشترك في عضويتها كافة دول الخليج العربي وايران والعراق، بالاضافة الى روسيا والصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند، ودول اخرى من ذوي العلاقات بصفة مراقبين. وتدعو المبادرة الى التزام دول المنطقة بالإفصاح وتبادل كافة المعلومات عن طريق هذه المنظمة، بما في ذلك المعلومات العسكرية والأمنية التي يبدو انها اصبحت هاجسًا روسيًا نتيجة ادراكها بما يواجهها من خطر كبير على وجودها بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وبحثها عن حلفاء يقفون معها او يقفون موقفًا محايدًا.

2- شعور دول مجلس التعاون بأهمية وجود توازن في العلاقات مع القوى الكبرى في العالم بعد التجارب المريرة التي مرت بها منذ الربيع العربي عام 2011 واهمية وجود إجراءات صحيحة لبناء الثقة بين كافة الاطراف ذات المصالح في المنطقة خاصة الولايات المتحدة، التي يجب أن تكون أساسًا لبداية مرحلة جديدة للعلاقات الثنائية في المنطقة بعد التغيير الاستراتيجي الامريكي نحو الصين وفتح صفحة جديدة مع ايران بعد الاتفاق النووي وأن تلك الإجراءات يجب أن تكون قائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام السيادة والاستقلال ووحدة التراب الوطني، والالتزام الكامل بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.

اعتقد ان تلك الحقيقتين تتوافق مع اهداف وأطروحات مجلس التعاون لامن المنطقة التي تدركها إيران وتدرك بأن الالتزام بهذه المبادئ، قولاً وفعلاً، ضرورية جداً لبناء الثقة وتمهيد الطريق أمام خطوات أكبر للتعاون. فالالتزام بها يعني تخلي إيران عن استخدام القوة للتدخل في الشؤون الداخلية لجيرانها، والتوقف عن تمويل وتدريب وتسليح الجماعات الإرهابية والميليشيات الطائفية التي تزرع العنف والدمار في المنطقة. ويعني كذلك وقف الاعتداءات على المملكة العربية السعودية بالصواريخ والطائرات المفخخة، وعلى ناقلات النفط والملاحة في الخليج العربي والبحر الأحمر. وما تواجهه دول مجلس التعاون من تهديدات غير مسبوقة في تاريخها بسبب الأخطار المحدقة بها من الولايات المتحدة ودول الجوار الإقليمي التي وظَّفت العنصر القومي الأيديولوجي وتأجيج الطائفيه كوسيلة لزعزعة استقرار المنطقة لتحقيق أهدافها وتنفيذ مخططاتها التوسعية.

فالاتحاد الروسي محاط بدولة مدعومة عسكريًا ومطلوب منها تنفيذ خطة إنهاء روسيا بالنيابة كقوة عالمية، أما دول مجلس التعاون فمحاطة بمؤامرات من جميع الجهات، ابتداءً من الصراعات الجارية في العراق واليمن والأوضاع غير المستقرة في سوريا ولبنان وانتهاءً بالمؤامرات التي تتعرض لها المملكة العربية السعودية ودولة الكويت ومملكة البحرين بتخطيط امريكي وتنفيذ إيراني عبر وكلائها وأذرعها، وكل ذلك واضح ومُعلن ومنفَّذ من خلال خلاياها النائمة في دول الخليج و(حزب الله) ذراعها الأساس في المنطقة العربية.

وأمام هذه الأوضاع المعقّدة والمتشابكة المتربصة بروسيا وبدول المجلس، عقد الحوار الاستراتيجي المشترك بينهما بعد ان وجدا بانه لا سبيل أمامهما سوى مواجهة التحديات عبر تكثيف جهودهما للتعامل معها ومعالجتها معالجة دقيقة لتطويق مخاطرها القائمة. وأول هذه التحديات رفض ايران الحليف القوي للاتحاد الروسي للبيان المشترك، حيث قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني إن «ما ورد في البيان المشترك لدول مجلس التعاون الخليجي وروسيا بشأن الجزر الإيرانية الثلاث، مرفوض». مؤكدًا أن «هذه الجزر تابعة لإيران للأبد».

وأضاف كنعاني أن «الجمهورية الإسلامية الإيرانية تؤكد على استمرار سياسة حسن الجوار والاحترام المتبادل، وتعتبر تنمية المنطقة واستقرارها مسؤولية جماعية لدول المنطقة». الا أن «إصدار مثل هذه التصريحات يتعارض مع العلاقات الودية بين إيران وجيرانها».

وعلى ما أذكر من اجتماعات الحوار الاستراتيجي المشترك السابقة لدول مجلس التعاون مع روسيا، كانت روسيا ترفض تأييد الموقف الخليجي الصريح من الاحتلال الايراني للجزر الإماراتيه الثلاث، إلا ان الظروف على ما يبدو قد تغيّرت والتطورات السياسية اختلف والأوضاع على إمتداد جبهة الصراع مع اوكرانيا تتطلب موقفًا روسيًا متجاوبًا مع الموقف الخليجي من الجزر الثلاث؛ لضمان حيادها على الأقل. وهذا ما حصل في موسكو واغضب طهران.

إلا أن وزير الخارجية الروسي وإرضاءً لإيران أشار إلى عودة العلاقات السعودية الإيرانية عندما قال: «السعودية كما تعلمون جدّدت علاقاتها الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ وقت ليس ببعيد. بشكل عام، هذا يخلق أجواءً أكثر إيجابية في هذه المنطقة، وإننا نشارك شركاءنا في موقفهم في البحث عن حلٍّ وسط، وكذلك استعدادهم لمراعاة مصالح بعضهم البعض وجميع الأطراف المعنية»

هذا من جانب.. من جانب آخر وهو الموقف الامريكي بعد اجتماع الحوار الاستراتيجي السادس في موسكو وفي هذا التوقيت، يؤكد بأن هناك تباعدًا يلوح في الافق بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة الامريكية التي اصبحت لها سياستها المستقلة التي ترعى مصالحها واهدافها. لذلك فإن الموقف الخليجي كما هو واضح بعد عقد الاجتماع في موسكو بأنها ترغب أن تستمر بانتهاج سياسة الحياد إزاء المعسكرين الشرقي والغربي، ومقاومة الضغوط الأمريكية التي تعمل على جرها للوقوف ضد روسيا التي تتمتع بعلاقات جيدة معها، خاصة مع الرياض وأبو ظبي وترغب في الرفع من مستواها لانخفاض الثقة في العلاقات والضمانات الأمريكية في الوقت الراهن نتيجة تجارب الربيع العربي والتقارب مع ايران.

ولنا في مقال الأسبوع القادم حديث حول الشروخ التي تعرضت لها العلاقات الخليجية الامريكية وانعكاساتها على العلاقات بين الجانبين بعد موجة التغيير التي يقودها صاحب السمو الأمير محمد بن سلمان آل سعود ولي العهد السعودي، نحو السعودية الجديدة والمتجددة في كل شيء وعلى كافة المستويات والمجالات، في مقابل التطورات الاخرى على صعيد التوجهات الاستراتيجية الامريكية الجديدة تجاه منطقة الخليج التي بدأت بالربيع العربي عام 2011 وانتهت باستراتيجية سياسية مع الصين.

(الأيام)

يتم التصفح الآن