الإستطلاع جرى على مستوى الرؤساء الأمريكان، بدءًا من هاري ترومان الذي كان سيدًا للبيت الأبيض يوم قيام إسرائيل، ومنتهيًا بالرئيس بيل كلينتون الذي كان على رأس الولايات المتحدة الأمريكية عندما أجرت الصحيفة استطلاعها للرأي، ثم مرّ بالرؤساء الذين تعاقبوا على المكتب البيضاوي بين ترومان وكلينتون. وكان بعضهم قد غادر الدنيا طبعًا، فاعتمدت "نيويورك تايمز" في استطلاعها معه على ما تركه وراءه من أحاديث منشورة على لسانه.
كان الاستطلاع يقوم على سؤال واحد، وكان المطلوب من كل رئيس أن يجيب عليه بأمانة، وكان السؤال كالآتي: "ماذا تعني إسرائيل بالنسبة لك؟".
ومع تعدد الرؤساء على مدى نصف القرن الذي غطّاه الاستطلاع، فإنّ الإجابة لم تختلف من رئيس إلى رئيس، وبدا من مجمل الإجابات حين تضعها إلى جوار بعضها البعض، وكأنهم جميعًا قد التقوا فيها على غير موعد، أو كأنهم اتفقوا مسبقًا على أن يجيبوا بطريقة واحدة، وأكاد أقول بكلمات واحدة، وصياغة واحدة!.
التزام البيت الأبيض بأمن الدولة العبرية ينتقل تلقائيًا من رئيس إلى رئيس
كانت الإجابات كلها تقول، وبشكل مباشر، إن لدى كل الذين تتالوا على البيت الأبيض التزامًا بأمن الدولة العبرية، وهو التزام راح ينتقل تلقائيًا من رئيس إلى رئيس، وكأن كل واحد كان يسلمه للذي يليه، وكان بالطبع التزامًا غير مكتوب، ولكنك من ديمومته واستمراره تجد نفسك على يقين من أنه اتفاق مكتوب بالفعل، وأنه لا مرشح كان يفوز في السباق الرئاسي نحو البيت الأبيض، إلا إذا تأكدت الدولة العميقة في الولايات المتحدة، أو ما يسمى بذلك هناك، من أنه سيلتزم بالاتفاق حين يفوز وأنه سيأخذ به دون تفكير.
وهو من جهة أخرى التزام عملي، وليس شفويًا على أي نحو، ولو أنّ الصحيفة رأت أن تستكمل استطلاعها وتعمل على تطويره في مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣، فسوف تجد الالتزام ذاته لدى الرئيس جو بايدن، وسوف تجد أنّ هذا الرئيس قد أمعن في ترجمته العملية للالتزام إلى حد لا يكاد المتابع يصدقه، لولا أنه واقع تُعززه الشواهد أمامنا.
التزام كهذا لو حظيت به قضية فلسطين من الجانب العربي، لكان حال القضية قد تغيّر، ولكان أصحابها قد جاء عليهم ١٥ مايو/أيار المقبل، وهُم في حال غير الحال، ولكان نوع من التوازن على الأقل قد طرأ على واقع القضية ومسيرتها إلى اليوم.
ولكن.. ماذا جعلني أتذكر استطلاع الصحيفة الأمريكية، وماذا دفعني إلى هذه المقارنة بين التزام لم يضعف لحظة واحدة على الجانب الأمريكي، وبين التزام آخر في المقابل منه على الجانب العربي، لم يشأ أن يكون في قوة الأول، ولا في حيويته، ولا في تدفقه، فكأنه نهر جرى منذ ١٥ مايو/أيار ١٩٤٨ ولا يزال يواصل الجريان؟.
الخبر المنشور يوم ٢٧ فبراير/شباط الماضي على لسان نير بركات، وزير الإقتصاد الإسرائيلي، هو الذي جعلني أتذكر الاستطلاع بما فيه من تفاصيل، لا لشيء إلا لأن الوزير بركات الذي كان يحضر مؤتمرًا لمنظمة التجارة العالمية في إحدى العواصم العربية، قال إنّ علاقات بلاده التجارية مع الدول العربية لم تتأثر بالحرب على قطاع غزّة.
ولأنه تكلم عن علاقات مع "الدول العربية" لا مع "دولة عربية" بعينها، فإنّ الخبر قد مرّ دون نفي له من جانب أي عاصمة من عواصم العرب، لأنّ كل عاصمة منها اعتبرت أنها ليست المعنية بالخبر، وأنّ سواها من العواصم هي المقصودة.
ليس أقل من أن ننتصر للقضية الفلسطينية بالاقتصاد لأنه أول ما يعني الدولة العبرية في علاقتها مع أي عاصمة عربية
كل عاصمة من العواصم التي قصدها الوزير الإسرائيلي حرّة في سياستها، ولا قصد من وراء الإشارة إلى الخبر المنشور سوى القول بأنّ الالتزام الذي مارسه ويمارسه الرؤساء الأمريكيون تجاه الدولة العبرية، يمكن جدًا أن يقابله التزام عربي تجاه قضية فلسطين، وبالذات على المستوى الاقتصادي، لأنه هو لا سواه الذي يهم تل أبيب، ولأنه هو لا سواه الذي يؤثر فيها ويخاطبها باللغة العملية التي تفهمها، ولأنه هو لا سواه كان أساسًا لسعي إسرائيل إلى ما يُسمّى اتفاقيات السلام الإبراهيمي.
إذا أعجزنا أن ننتصر لفلسطين بالحرب، فليس أقل من أن ننتصر لها بالاقتصاد، لأنه أول ما يعني الدولة العبرية في علاقتها مع أي عاصمة عربية، ولأن كل المطلوب منا أن نستخدمه، ولو استخدمناه أو وظفناه كما يتعيّن، فسوف يكون ذلك التزامًا عربيًا عمليًا تجاه القضية، وسوف لا ينفرد الالتزام الأمريكي وحده بالساحة.
(خاص "عروبة 22")