فخلال أكثر الفترات حُلكة من تاريخ العلاقات المغربية - الجزائرية ظلّت العلاقات التجارية وحركة عبور المواطنين في كلا الاتجاهين متاحة وبعيدة التجاذبات السياسية، بل لم تتأثّر بها إلّا في فترات متقطعة، قبل أن يدخل البلدان في فترة من القطيعة سنة 1994 وظلّت مستمرة إلى حدود اليوم، ابتدأت بغلق الحدود البرية، قبل أن تمتد لغلق المجال الجوي والبحري وقطع إمدادات الغاز وسحب التمثيليات الدبلوماسية، وصولًا إلى التهديد العسكري الغير مباشر ودعم الحركات الانفصالية.
هذا الوضع المتردي الذي أضحت عليه العلاقات بين البلدين فاقمته تطلعات الريادة الاقتصادية، التي جعلت من حوض البحر الأبيض المتوسط وغرب القارة الأفريقية، مسرحًا لفصول جديدة من الصراع بين البلدين.
النخب السياسية والاقتصادية الموريتانية تحاول الاستفادة من احتدام الصراع بين الأشقاء وِفق رؤية برغماتية
لقد اعتبرت الجزائر سعي المغرب لتجاوز الطوق المفروض عليه عبر قطع امدادات الطاقة وغلق المجال الجوي والبحري أمام النقل المدني والتجاري، من خلال السعي لاستقطاب شركاء اقتصاديين جدد كإسبانيا وعدد من دول الساحل والصحراء والغرب الأفريقي، تهديدًا مباشرًا لمصالحها الاستراتيجية، خاصة أنّ المغرب يقرن شراكته الاقتصادية باستخلاص مواقف مؤيّدة لتوجهاته السياسية المتعلقة بملف وحدته الترابية، وهو ما اعتبرته الجزائر سعيًا مضادًا لعزلها، خاصّة أنّ الرباط تحاول استثمار الوضع المتفجر بمنطقة الساحل والصحراء عقب توالي الانقلابات التي أطاحت بعدد من الأنظمة القريبة من باريس والجزائر، وهو الأمر الذي تجلى بوضوح في دعوة العاهل المغربي دول الساحل والصحراء إلى الانضمام إلى مبادرة المملكة الرامية إلى خلق تكتل اقتصادي أفريقي أطلسي يمنحها ولوجًا مباشرًا إلى أهم الخطوط البحرية عبر البوابات المينائية المغربية، خاصة المركب المينائي قيد الانشاء بجنوب المغرب "الداخلة الأطلسي".
من أجل تحقيق هذا المشروع ومشاريع أخرى مرتبطة بالواجهة الأطلسية كمشروع أنبوب الغاز نيجيريا المغرب، كان على المغرب تمهيد الطريق بعقد شراكات واتفاقيات مع عدد كبير من الدول الأفريقية بما فيها دولة موريتانيا، التي أضحت اليوم مفتاح نجاح أي مشروع إقليمي تطمح إليه الجزائر أو المغرب، وهو وضع تعيه جيدًا النخب السياسية والاقتصادية الموريتانية، التي تحاول الاستفادة من احتدام الصراع بين الأشقاء وِفق رؤية برغماتية محضة، تمكّنها من الحصول على امتيازات اقتصادية كبرى دون أن تقدّم مواقف واضحة قد تجعلها طرفًا في الصراع الإقليمي؛ فموريتانيا التي عقد رئيسها مؤخرًا اجتماعًا بالرئيس الجزائري تبون من أجل تدشين معبر حدودي ومنطقة تجارة حرة بالقرب من تندوف وطريق عابر للصحراء بتمويل جزائري، أوفدت في الوقت ذاته تمثيلية رفيعة المستوى إلى المغرب من أجل تدارس سُبل التعاون الاقتصادي، كما فتحت أبوابها للاستثمارات الجزائرية كما فعلت قبل ذلك مع الاستثمارات المغربية.
قد لا تتوانى موريتانيا عن مراجعة نهجها المحايد لصالح أحد البلدين
تمتلك موريتانيا اليوم عددًا من أهم مفاتيح نجاح المشاريع الاقتصادية الإقليمية لكلا البلدين في المنطقة، وهو ما يجعلها تسعى إلى توظيفها بشكل حذر تحافظ من خلاله على مسافة الأمان دون أن يؤثر ذلك على مصالحها الاقتصادية، وهو ما يُعدّ أمرًا غاية في الصعوبة بالنسبة لنواكشوط في ظل الصراع المحتدم وسعي البلدين الصريح إلى دفعها إلى الاصطفاف خلف توجهاتهما.
أمام حجم الضغوط المتوالية والإغراءات المتواترة قد لا تتوانى موريتانيا عن مراجعة نهجها المحايد لصالح أحد البلدين، وهو في حالة حدوثه قد يشبه ما سبق وأن عرفه الموقف التونسي من تطوّر إيجابي اتجاه الجزائر وتوجهاتها في المنطقة وذلك بعد التقارب الذي حدث بين الرئيس عبد المجيد تبون وقيس سعيد خلال الأزمة الاقتصادية التي عصفت بتونس، وهو ما أزعج الرباط وعجل بالقطيعة بينهما.
سواء تعلّق الامر بالوصول إلى المحيط وتطويق المغرب من الجنوب بالنسبة للجزائر، أو قطع الطريق أمام الجزائر في الوصول للأطلسي وربط الجسور مع حلفائه الأفارقة، تظل الأهمية الاستراتيجية لموريتانيا بالنسبة للبلدين الجارين فارقة لكلا البلدين من أجل تحقيق مطامحهما في المنطقة، وهي مطامح قد تُجهز على ما تبقى من أمل في إحياء اتحاد المغرب العربي وتعمق الشرخ بين دول وشعوب المنطقة، كما أنها قد تفاقم هدر الزمن التنموي وتوريث الأجيال القادمة عبء صراع لا يد لهم فيه.
(خاص "عروبة 22")