تقدير موقف

انتفاضة الضفّة.. والسادات "العربي - الفلسطيني" (1/2)

مقولة مبكرة حظيت بشعبية في الأيام الأولى التي أعقبت انتصار أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هذه المقولة تفاءلت بأنّ تحويل هذا الانجاز العسكري لنصر سياسي للقضية الفلسطينية ممكن هذه المرة. أحد أسباب التفاؤل أنه لا يوجد "سادات آخر في فلسطين" يقوم بإضاعة نصر الجيش المصري العظيم في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 كما فعل الرئيس المصري الراحل.

انتفاضة الضفّة.. والسادات

لكن يبدو أنّ السادات في السياسة والتاريخ العربي أصبح فكرة وليس رجلًا، وهو بهذا المعنى لم يعد بالضرورة شخصًا ولكنه في حرب غزّة الجارية يجسّد الأداء المؤسف للنظام العربي الرسمي بما فيه السلطة الفلسطينية.

انتقال واشنطن بعد ٧ أكتوبر إلى منهج "حسم الصراع" حسمًا نهائيًا مع معسكر المقاومة والسعي لتصفيته واحدًا بعد الآخر

والبداية عندما قررت الولايات المتحدة أنّ الهزيمة التي تعرّضت لها إسرائيل جيشًا ومجتمعًا في ٧ أكتوبر هي هزيمة غير مباشرة لواشنطن. وأنّ تمزيق المقاومة لأسطورة الجيش الذي لا يُقهر هو تهديد استراتيجي للهندسة السياسية التي مكّنتها من الهيمنة على المنطقة منذ أنور السادات. وأنّ الاستمرار في النهج الذي مارسته في العقود الثلاثة الأخيرة في "إدارة الصراع" مع إيران والمقاومة الفلسطينية واللبنانية الرافضة لهذه الهيمنة والمتحدية لهذه الهندسة لم يعد ممكنًا.

جزء من فكرة أنّ ٧ أكتوبر/تشرين الأول كان تحولًا استراتيجيًا هو انتقال واشنطن بعده وبسببه إلى منهج "حسم الصراع" حسمًا نهائيًا مع معسكر المقاومة والسعي لتصفيته واحدًا بعد الآخر. بدون إعلان رسمي انتقلت واشنطن إذن بعد "طوفان الأقصى" بشكل فعلي إلى الحرب مع وعلى إيران وحلفائها من المقاومة.

في التنفيذ تخصص المرحلة الأولى لتصفية المقاومة بدءًا بـ"حماس" و"الجهاد" ثم انتقالًا في مرحلة لاحقة إلى "حزب الله" والفصائل في العراق وسوريا والحوثيين. في المرحلة الثانية سيأتي الدور على إيران نفسها، كيف ومتى؟ سيُعرف ذلك لاحقًا، لكن من الواضح أنّ قرار تصفية النظام الإيراني الحالي ومن قبله القضية الفلسطينية قد اتُخذ فعلًا في واشنطن.

في هذا السياق يمكن حل اللغز المحيّر وهو لماذا تتغيّر موازين القوى في الحرب الغزاوية لصالح إسرائيل. الذي حدث باختصار هو أنّ الحاضنة الاستراتيجية التي يفترض أن تعمل من خلالها حسابات وآليات المقاومة في التعامل مع تطورات الحرب وهي الداخل الفلسطيني خاصة الضفة الغربية من جهة، والعالم العربي والإسلامي من جهة أخرى تعطلت كليًا، في المقابل عملت الحاضنة الاستراتيجية لإسرائيل المكوّنة من أمريكا والناتو بكامل قوتها على إسناد إسرائيل.

ثلاثة أهداف سخرت لها الحاضنة الاستراتيجية لإسرائيل كل إمكانياتها؛ الأول هو منع امتداد الحرب إلى جبهات أخرى ليتفرغ الجيش الإسرائيلي للمقاومين في جيب غزّة. الثاني، هو أن تحصل إسرائيل على كل الوقت الذي تريده والسلاح الذي تريده للاستفراد بالمقاومة وتحييد سلاحها. الثالث، هو تدمير غزّة مجتمعًا وبناءً وسكانًا وتقليص سكانه وجعل التهجير خيارًا محسومًا.

وفي كل هدف من هذه الأهداف كلفت الولايات المتحدة النظام العربي والفلسطيني الرسمي بوظائف محددة، بدونها ما كانت أوضاع المقاومة ومجريات الحرب تصل إلى المأزق الحالي.

في الجزء الأول من هذا المقال سنركّز على الهدف الأول الخاص بمنع امتداد نطاق الحرب خاصة بعد شهر نوفمبر/تشرين الثاني الذي كان نقطة تحوّل في مسار الأزمة. ففيه تبدى أنّ الاختلال في ميزان القوى لم يؤدِ إلى تحقيق أهداف أمريكا من الحرب وأنّ صمود المقاومة هزم كل الحسابات واضطرت إسرائيل فيه إلى التفاوض مع المقاومة لتوقيع أول هدنة مؤقتة بشروط رفعت رأس المقاومة أمام شعبها.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني أيضًا انضمت الساحة اليمنية لاستهداف السفن في البحر الأحمر وبحر العرب المتجهة لموانئ إسرائيل معيدةً إلى الأذهان إمكانية خنقها بحريًا كما فعلت مصر في حرب 1973.

وهنا حدث التحوّل في التعامل الأمريكي مع الأزمة ألا وهو تطوير قبول النظام العربي للأهداف الثلاثة المشار إليها، من دور الموافقة الساكنة إلى دور التآمر الوظيفي لتحقيق ما عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيقه على الأرض.

الضفة والقدس الجبهة الوحيدة التي لو اشتعلت لأجبرت إسرائيل على تخفيف تركيزها على غزّة

الوظيفة التي كلّف بها النظام العربي في تحقيق الهدف الأمريكي - الإسرائيلي بمنع امتداد الحرب بأي ثمن وافق هوى هذا النظام الذي استبدل عداءه لإسرائيل بعداء طهران ويشعر بقلق من أنّ إيران تمكنت بدعمها للمقاومة من إحاطة الجيش الإسرائيلي بجبهات تمتد من غزّة والضفة فلسطينيًا إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن عربيًا.

كما يعلم أنّ احتمال دخول إيران حليفة الصين وروسيا للحرب كان يعني حربًا إقليمية شاملة قد تمتد حتى إلى البؤر العربية الغنية البعيدة عن فلسطين. قامت واشنطن هنا بتوظيف كل الدول العربية المعادية للمقاومة أو المؤيدة لها ولكن القادرة على التواصل مع إيران، بتوصيل رسائل الترهيب والترغيب الأمريكية لطهران وحلفائها والتي شملت حزمة معقدة تتضمن جزرة في يد وعصا في اليد الأخرى.

جعل هذا رد الفعل الإيراني وباقي ساحات المقاومة هو رد الإسناد والاشتباك المحدود وليس الانخراط في المواجهة، وهو وإن شاغل إسرائيل وخلق لها متاعبًا إلا أنه لم يرقَ إلى مستوى يمنعها من تركيز ما تريد من القوات والأسلحة على جبهة غزّة.

إلا أنّ المصيبة الكبرى كانت في الجبهة الأكثر تأثيرًا على إسرائيل وتقع في قلب أمنها وهي الضفة والقدس المشبعة بروح المقاومة والرغبة في الانضمام للمواجهة مع إسرائيل. وهي الجبهة الوحيدة التي لو اشتعلت لأجبرت إسرائيل على تخفيف تركيزها على غزّة لأن النار ستمسك ببيتها وتنذر بحرب دينية تهدد مصالح أمريكا نفسها.

هي الجبهة التي إذا أزيلت العوائق التي تكبلها لتحسّن وضع المقاومة. الضفة والقدس خاصة في رمضان هي الجبهة التي تخشاها أمريكا أكثر من أي شئ آخر باعتراف وليم بيرنز نفسه قبل أيام. وهي الدافع الرئيسي لجولاته واستخدام نفوذ بلاده على الخليج والوسيطين المصري والقطري للضغط - دون نجاح حتى الآن - على المقاومة للتخلي عن شرط وقف الحرب. المهم هو منع اشتعال الضفة بجبهة جديدة ضد إسرائيل عنوانها المسجد الأقصى تعيد تغيير معادلة الحرب تغييرًا جوهريًا.

 شرطة السلطة تقوم أحيانًا بنفسها بالعمل نيابةً عن اسرائيل في إجهاض تحرّك الضفة

لكن الدور الوظيفي الأكبر للنظام العربي كان منوطًا بفرعه المتمثل في السلطة الفلسطينية. وتبدى في التزامها التنسيقات الأمنية والعمل كمركز معلومات متقدم يوفر لجيش الاحتلال كل الإنذارات المبكرة الكفيلة بإجهاض استباقي لكل التحركات في المخيمات والمدن الفلسطينية الساعية نحو انتفاضة شاملة. اقتحامات الاحتلال مخيمات ومدن الضفة لم يكن بعيدًا عن معلومات يوفرها التنسيق الأمني الذي تشيد مصادر إسرائيلية باستمراره دون أدنى تراجع. بل أنّ شرطة السلطة تقوم أحيانًا بنفسها بالعمل نيابةً عن اسرائيل في إجهاض تحرّك الضفة باعتقال مقاومين فلسطينيين.

التزمت السلطة بالخطة الأمريكية في كبح جماح الضفة خاصة مع تدفق أخير مفاجئ في الأموال الأمريكية والأوروبية ومستحقات كانت محجوبة إسرائيليًا. واقترنت التدفقات بالوعد بتسليم السلطة حكم غزّة بعد تصفية "حماس" ووعد آخر يعيد تسويق وهم "حلّ الدولتين" شرط أن تكون الدولة الفلسطينية بلا قدس ولا سيادة ومنزوعة السلاح.


في الجزء الثاني من المقال نحاول الإجابة على سؤال: ماذا لعب النظام العربي من دور في تحقيق الهدفين الآخرين لواشنطن، خاصة في تمكين العدوّ من تجويع غزّة وتحويل هذا الجوع كعب أخيل للمقاومة في عزّ الحرب؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن