في هذا العالم لا تندهش إذا تمّ تدمير أو وضع كلّ القواعد السياسية المستقرة محلّ شكّ. على رأس هذه القواعد المقولة الرّاسخة إنّه عندما يتعرّض بلد إلى خطرٍ خارجيّ فإنّ ذلك يؤدّي فورًا إلى توحيد الجبهة الداخلية وسموّ أطرافه على كل الانقسامات مهما كان عمقها.
بعد 17 شهرًا من حرب "طوفان الأقصى"، تنزلق أو على الأدقّ تستأنف إسرائيل انزلاقها إلى حافّة حرب أهلية. المدهش أنّ الفلسطينيين الذين يقتلهم الإسرائيلي قصفًا أو تجويعًا ينزلقون هم الآخرون لحربٍ أهليةٍ بدلًا من التوحّد أمام عدو تتصارع نخبه وتتفكّك مكوّناته.
كان "طوفان الأقصى" قد وحّد المجتمع الإسرائيلي لفترةٍ قصيرة. لكنّ هذه الوحدة بدأت في التكسّر تدريجيًا تحت وطأة انعدام أي أفق سياسي لدى نتنياهو لليوم التالي للحرب وارتفاع أعداد الجنود الضحايا والفشل في استعادة المخطوفين والعجز عن تدمير "حماس". لكنّ نتنياهو بإحيائه هذا الشهر من جديد للانقلاب القضائي، أعاد المواجهة الداخلية بينه وبين خصومه إلى مستوياتها المرتفعة وعادت معها المظاهرات اليومية عينها ضدّه التي كانت قبل "طوفان الأقصى". وتحدث غانتس وأولمرت عن أنّ إسرائيل على بُعد خطوة من السقوط في حرب أهلية. المدهش أكثر أنّ الفلسطينيين يسلكون أيضًا وفي الوقت نفسِه، أي خلال الأسبوعيْن الأخيريْن، مسارًا مماثلًا قد يقود لحربٍ أهلية... بدأت في غزّة، ولكنّها إذا تصاعدت لن تقف عندها وستنتقل للضفة والمهجر الفلسطيني.
يعتقد نتنياهو أنّه بمقدوره إلحاق هزيمة ساحقة بمعارضيه والحصول على سلطات شبه مطلقة
ما هي الأسباب التي تُفسّر على الجانبَيْن هذه الظاهرة السياسية المدهشة التي تتحدّى خبرةً تاريخيةً كخبرة الوحدة في مواجهة العدو؟
على ضفّة دولة الاحتلال يمكن ملاحظة سببيْن رئيسييْن:
1- تبنّي نتنياهو واليمين الحاكم عقيدة أنّهم يستطيعون حسم حروبهم في الخارج والداخل مرةً واحدةً، إذ أشعل نتنياهو نار الحرب المجتمعيّة من جديد مؤخّرًا. فقام وحكومته بإحياء مشروع تغيير لجنة تعيين القضاة ليضعِف استقلال السلطة القضائية وقرّر طرد رئيس الشاباك ليُنهي استقلال المؤسسات الأمنية، وقرّر إقالة المستشارة القضائية للحكومة لرفضها إعفاء "الحريديم" من دخول الجيش. إنّ نتنياهو الذي يعتقد أن هذه هي الفرصة المُتاحة لتقويض كلّ أعداء إسرائيل وإعادة بناء شرق أوسط جديد، يعتقد بالقدر نفسِه أنّه بمقدوره وتيار اليمين المتطرّف إلحاق هزيمة ساحقة بمعارضيه من المعسكر اليساري والعِلماني والحصول على سلطات شبه مطلقة تقوّض الديموقراطية الإسرائيلية المقتصرة على اليهود.
يعمل نتنياهو على استغلال الدخان الكثيف للحرب كغطاءٍ يمرّر منه هيمنة اليمين على مفاصل الدولة عبر الانقلاب القضائي. لم تسكت النّخب التي ترى أنّ إسرائيل تتحوّل لدولة ديكتاتورية، أصبحوا يعلنون استعدادهم لمقاومة انقلاب نتنياهو على الديموقراطية والتوحّد مع الهستدروت والجامعات والوصول حتى إلى مرحلة العصيان المدني إنْ لم يتراجع اليمين عن مشروع التمكين من الدولة.
تطابق عقائدي بين اليمين المتطرّف في إسرائيل واليمين الشعبوي للمسيحية الصهيونية في أميركا
2- حقيقة أنّ الدعم "الترامبي" غير المشروط لنتنياهو لا يقف عند التأييد المطلق له في إشعال الشرق الأوسط وسحق المقاومة، ولكن يمتدّ إلى احتقار الديموقراطية الكلاسيكية في توازن السلطات والحدّ من سلطات القائد السياسي. كلّ المؤشرات تقول إنّ التطابق الحاصل بينهما لا يقتصر على التطابق الاستراتيجي بأنّ الفرصة متاحة لتغيير الشرق الأوسط مرّة واحدة وإلى الأبد، ولكن يمتد إلى التطابق العقائدي بين اليمين المتطرّف في إسرائيل واليمين الشعبوي للمسيحية الصهيونية في أميركا. وهو تطابق ينسحب أيضًا على رؤيتهما للنظام السياسي بما ذلك الحدّ من استقلال القضاء. فما يفعله نتنياهو ما بدأه ترامب في بلده وحديث فريق نتنياهو عن الدولة العميقة التي تعرقل الرئيس والمشرعّين المنتخبين مسروق من أدبيّات ترامب.
على الضفّة الفلسطينية هناك أيضًا أسباب لإشعال نار حرب أهلية، بالقطع ستكون أخطر لأنّ الفصائل الفلسطينية مُسلّحة وجرّبت سلاحها هذا من قبل خاصّة في واقعة انفصال غزّة 2007.
- السبب الأهم يتعلّق جزئيًا بهذه الواقعة، ولكنه لا يقتصر عليها. فالسّلطة الفلسطينية وجدت في حرب الإبادة التي أضعفت "حماس" فرصةً سانحةً للعودة إلى غزّة، وبينما ما زال نتنياهو يرفض حتى الآن عودة السلطة فإنّ السلطة تجرّب أن تعود عبر الاستثمار في معاناة أهل غزّة الرهيبة من حرب الإبادة والتجويع والتهجير المستمرّ من الشمال إلى الجنوب. وهو ما تمّ بعد خروج مظاهرات الأسبوع الماضي لبعض سكان غزّة والتي طالب بعضها بخروج "حماس" من غزّة.
إذا وقعت حرب أهلية بين الفلسطينيين فستتجاوز أخطارها الأراضي الفلسطينية لتهدّد أمن واستقرار الدول العربية
المظاهرات هذه أمر مفهوم، لكنّ استغلالها من معسكر السلطة لتحميل المقاومة المسؤولية عن الإبادة ورفع مطالب مخيفة تدعو "حماس" لتسليم سلاحها وقرارها ومقاتليها وغزّة نفسِها للسلطة، كشف عن نُذُرِ حربٍ أهلية. تعرف سلطة رام الله أنّ استمرار مقاومة الاحتلال بالسلاح سبب رئيسي مع التنسيق الأمني في إضعاف السلطة التي باتت شعبيتها معدومة. الورطة التي يجد النظام العربي فيها سبب آخر: إذْ لم يقتصر التبنّي الإعلامي لتظاهر بعض الغاضبين من "حماس" على إعلام السلطة، بل تبنّتها بقسوة وسائل إعلام دول عربية معتدلة فحوّلت ردّ فعل شعبي مشروع إلى دعوة للمقاومة لتقديم تنازلات. هذه الورطة سببها أنّ النظام الرسمي العربي بعد وصول التحرّكات الإسرائيلية إلى تهديد الاستقرار والسيادة الوطنية لدول مثل مصر والأردن ولبنان وسوريا والعراق، صار أمام خيارَيْن إما أن يدافع عن نفسه ويواجه هذه التهديدات فيُغضب أميركا وإسرائيل وهو مرتعب من كليهما أو لا يدافع ولا يواجه فتصبح أنظمته الحاكمة معرّضة للسقوط كالدومينو إذا عجزت عن حماية سيادتها وحدودها. الحلّ الأسهل للنظام العربي كما كان باستمرار هو الضّغط على الفلسطينيين، فإذا كانت عودة إسرائيل للحرب غير كافية لكي تذعن المقاومة، وإذا كانت الضغوط التي يمارسها هذا النظام منذ 7 أكتوبر/تشرين الثاني على المقاومة لم تنجح فهناك الخيار الذي يمثله تململ الحاضنة الشعبية وتحويله لفكرة أنّ "حماس" باتت مكروهةً وبالتالي عليها أن تتنازل. جرى النّفخ الإعلامي المخيف في ذلك بكلّ قوّة لدرجة ترديد دعوات قادة العدو مثل كاتس للغزّيين بالنزول لطرد المقاومة.
- لم يكن غريبًا هنا أن تتشاطر السلطتين الرسمية العربية والفلسطينية دعم هذه المظاهرات وأن تردّ عليها "حماس" بدعوة أنصارها للنزول المضاد، فتعود معها نذر حرب أهلية للاشتعال، إذا وقعت لا قدّر الله فستتجاوز أخطارها - مثلها في ذلك مثل التهجير - الأراضي الفلسطينية لتهدّد أمن واستقرار الدول العربية.
(خاص "عروبة 22")