وجهات نظر

أحمد سعيد «المفترى عليه»

بتقادم السنين وتعاقب الأجيال نحتاج إلى مراجعات حقيقية لمَواطن القوة والضعف في تجاربنا الحديثة حتى تستقيم نظرتنا إلى المستقبل.

أحمد سعيد «المفترى عليه»

ظاهرته لا مثيل لها في التاريخ العربي الحديث. صعد بتأثيره إلى حيث لم يصعد إعلامي آخر، وظُلمت أدواره كما لم تُظلم أي أدوار أخرى، وكادت حجب النسيان أن تطوي ذكره.

هو أبرز أصوات الاستقلال الوطني في العالم العربي من أوائل الخمسينيات حتى هزيمة (١٩٦٧).

خاض معركة إسقاط حلف بغداد عام (١٩٥٥)، الذي استهدف ملء الفراغ في المنطقة بعد تراجع الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية.

كانت الهزيمة فادحة والبيانات العسكرية كاذبة

كانت المعركة ضارية بين القوة الأمريكية الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية وحركات التحرير الوطني التي ما زالت في مهدها.

وخاض حرب السويس عام (١٩٥٦) حاشدًا العالم العربي وراء مصر المقاتلة.

كانت معركة أخرى على مصير الإرادة الوطنية المستقلة بعد تأميم قناة السويس.

ارتفع صوته في عام (١٩٥٨) بأحلام الوحدة المصرية- السورية والتطلع إلى دولة عربية واحدة.

طوال سنوات التحدي حتى انكسار هزيمة (١٩٦٧) تصدّر كل معركة، من مشرق العالم العربي في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان، إلى مغربه في الجزائر والمغرب وتونس، إلى الخليج واليمن.

الثورة الجزائرية درة التاج في معاركه كلّها.

لا يمكن كتابة تاريخ ثورة المليون ونصف المليون شهيد دون التوقف عند دوره فيها.

وقد كان مركزيًا ومتداخلًا بالعمق في أحداثها الكبرى.

في دراسته اللافتة لما طرأ على المجتمع الجزائري من تحوّلات في القيم والسلوك أثناء الخمس سنوات الأولى من الثورة، أشار المفكّر الفرنسي "فرانس فانون" إلى دور "صوت العرب"، حيث كان الجزائري العادي يشتري جهاز الراديو ليستمع إلى صوته، وهو يردّد كلمة "الاستقلال".

كان يطلق على أجهزة الراديو "صندوق أحمد سعيد".

في عام (١٩٦٧) حُمل بما لا يحتمل من مسؤولية الهزيمة العسكرية.

كانت الهزيمة فادحة والبيانات العسكرية كاذبة.

لم يكن هو الذي كتبها، فقد تلقاها من القيادة العسكرية في ذلك الوقت.

ولم يكن بوسعه تجاهلها شأن أية محطات تلفزيونية، أو إذاعية أخرى، لكن كل السهام صوّبت إليه وحده.

في سبتمبر (١٩٦٧) خرج من الإذاعة، التي أسسها عام (١٩٥٣)، وتوارى إلى الظل.

خلفه على مقعده "محمد عروق". لم يكن الهدف تغيير الرجال بقدر تغيير الدفة من التعبئة إلى التوعية، فقد اختلفت طبيعة الظروف والأحوال.

أعداء الخارج والداخل انتقموا من عبد الناصر في "صوت العرب"

لم تكن تلك مهمة سهلة فقد تقوضت صدقية أكثر الإذاعات تأثيرًا وشعبية فيما تبثّه من بيانات.

باليقين فإنها معذورة، أو مظلومة- كما قال "عروق"- حيث كانت تذيع البيانات العسكرية التي ترد إليها، ولا تتحمّل أية مسؤولية عنها.

"أوقفت إذاعة البيانات العسكرية المزيّفة عصر ٥ يونيو، وكان التحدي أمامي هو كيف نعلن الهزيمة، وندعو الناس إلى التماسك".

"لم أصنع الهزيمة وبيانات النكسة لم تكن من تأليفي".

"هل كان مطلوبا أن أذيع البيان الذي يعجبني وأحجب سواه؟!".

"الجهلاء هم الذين يتصورون أنّ الإعلامي يمكن أن يجتهد في حالة الحرب".

عند انقلاب السياسات على عصر "جمال عبد الناصر"، استهدفت تجربة "صوت العرب" بضراوة.

شاعت روح السخرية من لحنها المميز: "أمجاد يا عرب أمجاد.. في بلدنا كرام أسياد".

لم تستهدف السخرية الرجل وتجربته بقدر ما استهدفت الأحلام التي انكسرت.

جرى الافتراء عليه بما لا يتحمّل.

"أعداء الخارج والداخل انتقموا من عبد الناصر في صوت العرب" - كما كتب بخط يده في مذكراته، التي لم يتسنّ لها أن تُنشر حتى الآن رغم أهميتها التاريخية الفائقة.

في عزلته الطويلة، التي امتدت حتى رحيله عام (٢٠١٨)، كان يستعيد من وقت لآخر بيتي شعر الشاعر العراقي "محمد مهدي الجواهري":

"إنا رئات في حنايا أمة

راحت بنا تتنفّس الصعداء

لم نأتِ بدعًا في البيان وإنما

كنا لما حلمت به أصداء".

المفارقات حادة اليوم بين ما بشّر به وما وصلنا إليه.

وفق ما قاله لي مؤسّس إذاعة "صوت العرب"، وقد كان الحوار بيننا متصلًا في سنواته الأخيرة، فإن إعلام التعبئة، الذي عبّر عنه أكثر من غيره ونجاحه أمثولة تدرّس، انتهى زمنه، فلا توجد قضية تلهم ولا مشروع يقود، فضلًا عن أنّ "حقائق العصر تستدعي التعدّد حتى لو توافرت القضية ووجد المشروع".

من لا يدرك اختلاف العصور يُعاند الحقائق.

لم يخترع أحد مشروع التحرير الوطني ولا نداءات الوحدة العربية.

كان العالم العربي يموج بهذه الأفكار ومستعدًا للتضحية في سبيلها.

هو أحد تجليات الصعود الكبير لمشروع "جمال عبد الناصر".

شغل تأثيره مراكز أبحاث وأجهزة استخبارات على ما تدلّ الوثائق الغربية المتاحة.

أثناء حرب السويس قصفت الطائرات محطات إرسال "صوت العرب" في "أبي زعبل" شمال شرق القاهرة لإسكاتها.

حين فشلت الغارات في إسكات صوته حاولت غارات من نوع آخر، سياسية وإعلامية، تشويه صورته.

غير أنّ التاريخ سوف يتوقف طويلًا أمام تجربته التي لا مثيل لمستويات نجاحها بمهمتها الإعلامية في صدام الإرادات على مصير المنطقة.

تحية إلى "أحمد سعيد" ورفاقه وزمنه في ذكرى مرور سبعين سنة على إطلاق "صوت العرب". 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن