انطفأت أضواء مسرح دولبي الشهير، وتلاشى بريق الذهب، وخفت صدى تصفيقات الجمهور، ليجد أوبنهايمر نفسه وحيدًا في مواجهة محكمة التاريخ، وهي محكمة مظلمة صامتة، لا يُضيء ردهاتها سوى شعاع الضوء الحارق، ولا يخترق صمتها سوى صراخ قروي ياباني انسلخ لحمه عن عظمه. فهل كان فيلم نولان توثيقًا بريئًا لحدثٍ تاريخيٍ مأساويٍ، أو أنّ الفيلم هو احتفاءٌ مستمرٌ بقرارات الحلفاء؟
يُشكّل تاريخ الحروب الأوروبية مادة أدبية ودرامية دسمة، تثير شهية الكتّاب والمخرجين والمنتجين، وتستهوي أيضًا ميول القارئ أو المشاهد الغربي، إذ ينظر الغربيون بكثير من الفخر لماضيهم الحربي، ويحن أغلبهم في الخفاء أو العلن ــ على حسب درجة تركيز "الصوابية السياسية" في الأجواء ــ إلى تاريخهم الإمبريالي وتوسعاتهم الاستعمارية. وفي هذا السياق، قد جاء كريستوفر نولان ليستكمل مسيرة الاحتفالات الغربية بموروثها الحربي التوسعي.
لم يكن "أوبنهايمر" فيلم نولان الأول حول الحرب العالمية الثانية، بل سبق له أن قدّم فيلم "دانكيرك" الذي تحدث عن إجلاء دانكيرك أو ما يُعرف بعملية دينامو الشهيرة.
الملاحظ أنّ أجواء الحربين العالميتين تستحوذ على مخيلة المبدعين في هوليود، إذ يجوز لنا القول إنّ الحروب الأوروبية الكبرى هي "رومان إيمباير" الرجل الأبيض المعاصر. هذا الرجل الذي يصر عبر أذرعه الاعلامية والمؤسّساتية الضخمة، على الترويج إلى رؤية أحادية للحقيقة التاريخية، وهي رؤية تسقط في الكثير من الأحيان في فخ البهلوانية والتهريج، إذ كيف يستقيم في قلب وعقل الرجل الأبيض إنتاج فيلم يتحدث عن مأساة جندي أميركي أصيب بالاكتئاب الحاد بعد قتله آلاف الأطفال العراقيين، مثلًا؟ إنّه العبث.
نتذكر جميعًا كيف امتعض كريستوفر نولان من قرار اليابان بمنع عرض "أوبنهايمر" في صالاتها السينمائية، امتعاض يُعبّر عن عنصرية مقيتة اتجاه شعب قد شاهد البث الحي "لأوبنهايمر" قبل ثمانية عقود.
الحُلم الإمبريالي الخالد في هوليود
تُعتبر هوليود آلة دعائية غربية غالبًا ما تسعى إلى تلميع التاريخي الأميركي/الأوروبي المشترك، وما الضجة الإعلامية والحَملات الإعلانية المكثفة التي رافقت عرض فيلم "أوبنهايمر"، إلّا دليلٌ على رغبة هوليود بأنسنة المتورطين في اتخاذ قرار سحق مئات الآلاف من المدنيين العزل، بحُجّة وقف الحرب وإنقاذ الملايين من موت محقق، والحال أنّ كواليس السياسة والتاريخ تفضح زيف مزاعم هذه الحجة الواهية.
لقد سبق لنا أن شاهدنا هذا العرض المسرحي الرديء حين شيطن "كولومبوس" السكان الأصليين، أو حين وصف المستشرقون بلاد المشرق والمغرب بالهمجية والانحلال، أو حين جرّد المستعمر الأوروبي الأفارقة من إنسانيتهم ومارس ضدهم أبشع أنواع الاستغلال، أساليب ملتوية يستعملها الرجل الأبيض حتى يُبرّر فظائعه ويستسيغ اختياراته اللاأخلاقية.
وفي هذا السياق، انتشر أخيرًا مقطع فيديو لإيريك برنس المدير التنفيذي السابق لشركة "بلاك واتر" للأمن العسكري، حيث أكد على ضرورة إقامة الولايات المتحدة الأميركية لحكومات "مستقلة" تحت سيادة أميركية، داخل الدول التي تعجز عن حكم نفسها.
وحدها الصدفة جعلت من إيريك برنس، والذي ارتكبت شركته فظائع مهولة في حرب العراق الأخيرة، يطالب بإقامة تلك الحكومات المزعومة فقط على أراضي الدول الإفريقية الغنية بمناجم الألماس واليورانيوم والكوبالت، إذ نلاحظ كيف تتماهى مثل هذه التصريحات المسيئة مع البروباغندا الغربية التي تصر دائمًا على إرساء "الديموقراطية" حول منابع الثروات الطبيعية للشعوب!.
محاكمة "أوبنهايمر" في عالم مليء بالدمى المتفجرة
ونحن نعيش اليوم على وقع المذابح العرقية وسياسات التجويع والتشريد والتهجير القسري في حق كل من الشعب الفلسطيني والسوري والسوداني، أو على وقع الحروب الأهلية الدموية في هايتي وأوغندا، لا نملك إلّا أن نتساءل عن سرّ الاحتفاء الغربي الهيستيري بفيلم يُوثّق بل يُبرّر لمخلفات التركة الإمبريالية التي ساهمت بشكل أساسي في تدهور الأوضاع الانسانية لمستعمراتها السابقة، والتي لا زالت تصارع شبح الموت والجوع.
من المعلوم أنّ المركزية الغربية تعشق التألّه الأخلاقي على العباد، ولا تفوتها فرصة إلّا وقد أوجعت رؤوسنا بمحاضرات عنترية حول حقوق الإنسان وضرورة احترام القوانين الدولية، وواجب الإحسان لأسرى الحروب وما جاور أزليات هذا المبعوث الأممي أو ذاك، إلّا أنّ قناع التفوق الأخلاقي قد سقط أمام ازدواجية معايير الرجل الأبيض الذي قدّم لنا الصيف الماضي دمية وردية لطيفة تخفي في أحشائها قنبلة نووية حارقة.
(خاص "عروبة 22")