وجهات نظر

انفجار "الصبر" في إدلب!

شهدت مناطق إدلب شمال غرب سوريا، تظاهرات واسعة ومتعددة في الفترة الأخيرة، شملت إدلب مركز المنطقة ومجموعة من مدنها وقراها، رفعت في خلالها مطالب إسقاط أبو محمد الجولاني زعيم "هيئة تحرير الشام"، وطالبت التظاهرات بإسقاط الهيئة كلها، وطرحت مطالب أخرى بين المطلبين، منها حل الجهاز الأمني للهيئة، ومحاسبة الذين ارتكبوا جرائم التعذيب والقتل من عناصره، وإنهاء المحاصصات في العمل التجاري، وإلغاء الرسوم والضرائب على البضائع.

انفجار

وإذا تأملنا خلاصة المطالب، يمكن القول، إنها تعني بلوغ صبر سكان المنطقة حدّه الأعلى إزاء سياسات وممارسات الهيئة وزعيمها، وضرورة تجاوز تجربة سنوات حكمهم، والذهاب نحو سلطة جديدة، تحل مكانهم في إدارة منطقة إدلب، وتأخذها وسكانها إلى وضع أفضل بعد سنوات، تركت بصمات ثقيلة في ملامح المنطقة وحياة سكانها، وكله أعطى أهمية كبرى للحراك الشعبي ومظاهراته في مواجهة سلطة الأمر الواقع، وفتح الباب نحو صورة أخرى، لما يحب السوريون أن يكونوا عليه هناك.

وتتضاعف أهمية ما حصل في المنطقة نتيجة حيويتها من جهة ووزنها السياسي والسكاني من جهة أخرى، حيث تضم المنطقة نحو أربعة ملايين ونصف مليون نسمة، نصفهم من سكان المنطقة الممتدة في إدلب وريفها وجزء من ريفي حلب واللاذقية، ويتألف النصف الثاني من أهالي محافظات أخرى، نزحوا واستقروا في المنطقة هربًا من وحشية وجرائم الأسد، ومن معارك وسياسات التنظيمات المسلحة ومنها "داعش"، إضافة إلى المشمولين في التسويات مع النظام من محافظات حمص ودمشق ودرعا والقنيطرة الذين تم تهجيرهم إلى إدلب، مما جعل المنطقة في تكوينها السكاني نموذجًا لسوريا الصغرى أو المصغرة من حيث تعبيرها عن التعدد والتنوع، ولا يشوب أهمية المنطقة سوى أنها محكومة بالجولاني و"هيئة تحرير الشام".

تردي الأوضاع الأمنية نتيجة الملاحقات والاعتقالات وعمليات التعذيب دفع إلى خروج مظاهرات تهتف ضد الجولاني والهيئة

تعود أصول "هيئة تحرير الشام" وزعيمها الجولاني إلى النواة المعروفة باسم "جبهة النصرة"، التي أعلنت نفسها فرع تنظيم "القاعدة" في سوريا بداية عام 2012، وذهبت إلى العنف المسلّح، وانتشرت في أنحاء مختلفة وخاصة في شمال غرب سوريا، وركزت عملياتها الأساسية في مواجهة تشكيلات "الجيش الحر" لتدميرها، كما فعلت مع "جبهة ثوار سوريا"، وقامت بالاستيلاء على عتاده وأسلحته، واغتالت خيرة من بقي من قادته وكوادره، ثم اتجهت لمحاربة شقيقاتها الإسلاميات مثل "حركة أحرار الشام"، فدمّرت أغلبها، وأضعفت ما تبقى في الطريق للسيطرة على إدلب دون أن يكون لها منافس حقيقي بعد أن غيّرت اسمها وتحوّلت إلى "هيئة تحرير الشام" بوضعها الراهن قبل نحو ست سنوات.

ومنذ سيطرتها على إدلب، عمل الجولاني عبر الهيئة، وحكومة الإنقاذ التابعة لها، على تطبيق سياسة داخلية متشددة محكومة بالتطرّف الديني في الحياة اليومية، والاستخدام الواسع للقوة في التعامل مع الجمهور والنخبة، بمن فيهم الناشطون في الجماعات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والإعلاميون، وصولًا إلى كل من يشكل تهديدًا لسيطرة الجولاني على الهيئة بما يشمل كبار القادة فيها، وكله ترافق مع السعي للحصول على مسحة شكلية في الانتماء لـ"الثورة السورية" تجسدت في تبني علم الثورة، مما ساعده في تغطية سياسات اقتصادية-اجتماعية، تقوم على الاستئثار بالموارد وفرض رسوم وضرائب، وتكريس فساد واسع، فيما اتجهت سياساته الخارجية نحو تسويق نفسه وتجربته، فضَمِن سكوتًا، بل قبولًا وتعاونًا من تركيا، يعززه سكوت إقليمي-دولي، تجاوز وصف "هيئة تحرير الشام" وقبلها "جبهة النصرة" بـ"الإرهاب"، وتخصيص مكافأة مالية أميركية في مقابل تقديم معلومات عن الجولاني.

لقد راكمت سياسات الجولاني وأدواته غضبًا واسعًا تعزَّز مع تصاعد أزمات اقتصادية ومعيشية في المنطقة وعموم سوريا، ثم أضيف لما سبق عامل ثالث، أساسه تردي الأوضاع الأمنية نتيجة الملاحقات المتزايدة والاعتقالات وعمليات التعذيب، مما دفع إلى خروج مظاهرات تهتف ضد الجولاني والهيئة.

واستشعرت الهيئة خطورة ما جرى، فلجأت إلى خطوات تمتص فيها الغضب الشعبي، وتتحايل على مطالب المتظاهرين، فكانت الخطوة الأولى تحريك خط التماس مع نظام الأسد والمليشيات الإيرانية للإيحاء أنّ الهيئة ما زالت في مواجهة نظام الأسد والإيرانيين، والخطوة الثانية خروج قياديين من الهيئة للحديث عن مستجدات الوضع ووقوف الهيئة مع مطالب المتظاهرين التي لا تمس نقاطًا حساسة، واستعداد الهيئة وحكومة الإنقاذ التابعة لها لاتخاذ إجراءات إصلاحية في جوانب سياسية وعملية، تشمل توسيع هامش المشاركة في إدارة المنطقة، وتحقيق انفراجات أمنية، والتأكيد أنها بدأت بالفعل عبر القيام بخطوات منها إصدار عفو عن سجناء وإطلاق موقوفين من سجون الهيئة، كما حصل في ملف المتهمين بـ"العمالة" من قيادات وأعضاء في الهيئة، وصل عددهم إلى نحو ألف معتقل.

ويبدو أنّ أثر امتصاص غضب المتظاهرين كان محدودًا، مما دفع الجولاني للدخول شخصيًا في معالجة الوضع المتفاقم، فعقد بحضور بعض أركانه اجتماعًا مع فعاليات في المنطقة وشخصيات مقرّبة، عرض فيه الجولاني جوانب مختلفة من الوضع القائم في إدلب ومحيطها، وضرورة اتخاذ إجراءات إصلاحية، وسط تأكيد أنّ الإجراءات الممكنة ينبغي أن لا تمس جوهر النظام الذي ركّبته "هيئة تحرير الشام" وزعيمها، والتي أسماها الخطوط الحمر، مُصرًا على مراعاة عدم تجاوزها حتى لا تذهب المنطقة والتجربة إلى العدم، ولم تكن الاشارة سوى تهديد مبطن بأنه لا يمكن تغييب أو تغيير مكانته ولا موقع الهيئة التي يقودها في إدارة منطقة إدلب.

الجولاني والهيئة يجسدان نموذجًا لسلطات القمع والإرهاب والفساد والنهب على نحو ما جسده نظام الأسد

خلاصة القول، إنّ الأوضاع في منطقة سيطرة الجولاني في إدلب ومحيطها تتجه إلى مزيد من التدهور، وإنّ حركة الاحتجاج والتظاهر يمكن أن تتصاعد، والحلول التي تسعى إليها "هيئة تحرير الشام" وحكومتها وزعيمها، لا تقنع الفاعلين الأساسيين وسكان المنطقة، مما يرشح الوضع إلى احتدامات جديدة، هدد الجولاني بالتصدي لها، إذا تجاوزت ما أسماه بـ"الخطوط الحمر"، وهدد الحاضرين بالقول: "لن نسمح لأحد على الإطلاق بأن يمس المحرر بسوء، وما وصلنا إليه من مكتسبات لن نعود فيها إلى الوراء على الإطلاق، لذلك انتبهوا وحذروا الناس، لأن ما بُني في سنوات لن نسمح له أن يُهدم على الإطلاق، وإذا تدخلنا لحماية المحرر سنتدخل بشكل شديد".

الجولاني والهيئة في مسارهما العام، يكرران نموذجًا للتطرف هو الأقرب إلى مثال "القاعدة" و"داعش"، ويجسدان عبر سلطة الأمر الواقع نموذجًا لسلطات القمع والإرهاب والفساد والنهب على نحو ما جسده نظام الأسد في تعامله مع السوريين، والتطابق بين حديث الجولاني الأخير حول علاجات الوضع، لا يختلف من حيث المضمون عن خطابات وأحاديث الأسد إلا في تفاصيل منها عدم تناول موضوع "المؤامرة الكونية"، غير أنّ ما سبق كله لن يؤدي إلا الى تفاقم مكانة الجولاني وهيئته، مما يعجل بانهيار سلطته.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن