ما الرسائل التي تعمّد سيّد الكرملين توجيهها عبر تظهير تفاصيل مهمّة، مثل أن الاجتماع مع قادة فاغنر تمّ بحضور رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين وقائد الحرس الوطني الروسي فيكتور زولوتوف، واستغرق ثلاث ساعات؟ ولماذا تعمّد الكرملين الإفصاح الجزئي عن محادثات بوتين مع بريغوجين وقادة فاغنر بالقول "إنّ بوتين تحدث عن تقييمه لمشاركة فاغنر في الحرب الروسية على أوكرانيا، ولأحداث التمرّد التي وقعت يوم 24 حزيران/ يونيو الماضي، وأنّه عرض على قادة فاغنر خيارات العمل والتوظيف في المجال العسكري"؟.
ولماذا ظهّر الكرملين كلام بريغوجين بأنّ ما قام به "ليس تمردًا عسكريًا ضد الدولة الروسية، لكنه سعيٌ للحيلولة دون حل شركة فاغنر، ومن أجل محاسبة القادة العسكريين الفاسدين، وعلى رأسهم وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان العامة فاليري غيراسيموف، بسبب أخطائهما الفادحة وغير المهنية في إدارة العملية العسكرية في أوكرانيا"، وليختم المتحدث باسم الكرملين "التسريبة المدوّية" التي تسلّمها بالقول "إنّ قادة فاغنر أكدوا دعمهم للرئيس الروسي ومواصلة قتالهم من أجل روسيا".
ما تقدّم غيض من فيض الأسئلة التي تدخل في نطاق الأسرار الاستراتيجية العميقة التي ربما تفكّ الأيام والأشهر المقبلة شيفرتها السرية.
لكن ما يجدر التوقف عنده، هو أنّ اللقاء حصل بتاريخ 29 حزيران/ يونيو. أي غداة زيارة بوتين إلى مسجد مدينة دربند في داغستان بتاريخ 28 حزيران/ يونيو الماضي، ويومها كانت الأنباء تتطاير من السويد عن إحراق المصحف الشريف أمام مسجدها المركزي، التي رغم فظاعتها وإشعالها لغضب المسلمين حول العالم، فإنّها لم تسرق الأضواء عن روسيا وتمرّد بريغوجين. بل إنّ بوتين دخل على خط هذه الحادثة الخطيرة ليعلن وهو يحتضن المصحف أنّ "روسيا تكنّ احترامًا شديدًا للقرآن ولمشاعر المسلمين الدينية. وعدم إحترام هذا الكتاب المقدّس جريمة وفقًا للمادة 282 من القانون الجنائي لروسيا"، وإذ شكر بوتين إمام المسجد على إهدائه نسخة من المصحف الشريف، تعمّد تأكيده بأنّ المصحف سيحظى بمكان لائق في الكرملين.
العملية العسكرية الروسية هدفت إلى منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي
موقف بوتين هذا، قارنه كثيرون بموقف السويد وأمين عام حلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ الذي اعتبر إحراق المصحف "حريّة تعبير". حريّة، سبقها العام الماضي، الإحراق الأول للمصحف أمام السفارة التركية في ستوكهولم. وربّما لهذا السبب كانت زمجرة الرئيس التركي قوية ولافتة، علمًا أن ما تمنّاه كثيرون في العالم الإسلامي من اردوغان هو استخدام الفيتو ضد انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي، وليس الزمجرة الصوتية. لكنّ الذي حصل أن اردوغان خلال اجتماعه مع رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون على هامش قمّة الناتو في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا، وافق على بروتوكول انضمام السويد لحلف الناتو، مؤكدًا سعيه لدى البرلمان التركي "لضمان التصديق عليه".
وسبق موافقة اردوغان على انضمام السويد لحلف الناتو، إعلانه خلال استقباله الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي للمرّة الأولى في تركيا بعدما سلّمه عددًا من قادة "آزوف"، أنّ "لأوكرانيا بلا ريب الحق في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي". هذا الكرم الاردوغاني المفاجئ، يأتي مع إدراك الرئيس التركي العميق، فضلًا عن قادة الناتو، أنّ غاية العملية العسكرية الروسية الخاصة والإستباقية في أوكرانيا، هي بهدف منعها من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
تفسيرات التحوّل في الموقف التركي، تؤكد أنّ اردوغان تمكّن من إبرام صفقة عمره السياسي، التي قايض فيها موافقته على دخول السويد إلى حلف الناتو، بمكافأة أو موافقة متزامنة للولايات المتحدة أولًا، على انضمام تركيا إلى الاتحاد الاوروبي، وثانيًا على دعم الرئيس الأميركي جو بايدن خطّة تسليم أنقره مقاتلات "إف-16" بحسب مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان قبيل لقاء بايدن واردوغان على هامش قمّة الناتو بهدف تعزيز الدفاع والردع في المنطقة الأوروبية الأطلسية. وفيما أكد الكرملين بأنّه سيكون لانضمام السويد لحلف الناتو تداعيات سلبية، أعلن سيرغي لافروف أنّ بلاده "ستتخذ إجراءات استباقية مناسبة وستحمي مصالحها الأمنية المشروعة".
لأسباب "سوبر استراتيجية" تعمّد بوتين إبقاء الغموض حول بريغوجين وإخفاء اجتماع ترتيب الأمور معه
لكن هل هذه هي بنود وحقيقة الصفقة بين تركيا والولايات المتحدة؟ أم أنّ هناك بنودًا سرّية ستتحرّك تفاصيلها في الميدان من سوريا إلى ليبيا مرورًا بالسودان الذي انخرطت فيه مسيّرات بيرقدار التركيّة إلى جانب الجيش السوداني!
عند زيارة بوتين اللافتة الى داغستان، تساءل كثيرون كيف له مغادرة الكرملين في ظل تداعيات مضطربة بسبب تمرّد قوات فاغنر التي وصلت طلائعها إلى تخوم موسكو، فانشغل الكثير من الدوائر العدوّة والصديقة لموسكو في رسم سيناريوهات متناقضة، ثبت عدم صحة غالبيتها، لأنّ أغلبها ينطلق من الفكر أو التفكير الرغبوي سواء لجهة إهتزاز كرسي بوتين وهيبته، أو لجهة اشتداد قوّة الرجل نتيجة نجاحه في تفكيك فاغنر وشركاتها في روسيا وحول العالم.
الصورة بدأت تتضح أكثر إذن. فلأسباب سوبر استراتيجية تعمّد بوتين إبقاء الغموض حول بريغوجين وإخفاء اجتماع ترتيب الأمور معه، ليطلقه كقنبلة غير منزوعة الصواعق السياسية والإعلامية تزامنًا مع احتفاء قمّة الناتو بانضمام السويد للحلف. ويبدو أنّ بوتين تقصّد القول من خلال هذا الإخفاء والإعلان المدروسين، القول بأنّ استعادته لفاغنر يوازي استراتيجيًا أو يفوق، انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي.
"فاغنر" أكثر مرونة وسرعة في اتخاذ القرارات والحركة الميدانية من الجيش الروسي
لماذا؟ لأنّ بوتين أكثر من يدرك أهمية فاغنر الإستراتيجية، ولهذا مهّد لترويضها واستعادتها بتأكيد إنحيازه الحاسم للجيش الروسي ووزارة الدفاع والأجهزة الرسمية الأخرى، بالقدر نفسه الذي كان حاسمًا فيه بامتداح وطنية فاغنر ودورها وبطولاتها في الحرب الأوكرانية خاصة.
قبل التمرّد برزت ثنائية بوتين/ بريغوجين، التي أسميناها ثنائية "بريغوتين" والتي تعزّزت يوم التمرّد وبعده، ثم ضاعف اجتماع الثلاث ساعات من تعزيزها. لكنّ بوتين بعقله "الاسترالوجي" العميق أعاد تنظيم تموضع فاغنر الذي ربما يستدعي الفصل الممرحل بينها وبين زعيمها بريغوجين، بما يلغي خطوط الإحتكاك والتماس الميداني والتوتر النفسي بينها وبين وزير الدفاع سيرغي شويغو وجنرالات الأركان الروسية. ويرجّح أنّ بوتين اكتشف عدم صوابية تواجد فاغنر والجيش الروسي في ميدان عسكري واحد، ما عكس ويعكس تفوّق واندفاعة فاغنر على الوحدات النظامية، وذلك ليس لأنّ عناصر فاغنر أكثر خبرة وشجاعة من عناصر الجيش الروسي، بل لأنّ فاغنر أكثر مرونة وسرعة في اتخاذ القرارات والحركة الميدانية من الجيش الروسي الذي تحتاج أصغر حركة أو تحرّك ميداني منه، لسلسلة واسعة وكبيرة من التعليمات الهرميّة التسلسلية التي لا تحتاجها فاغنر، ما يعكس تمايزها وديناميتها وأحيانًا تفوّقها العسكري.
لهذا السبب وغيره، دلّل بوتين قادة فاغنر وخيّرهم بين العمل مع الجيش الروسي أو الذهاب إلى بيلاروسيا أو إلى منازلهم. تخيير ثلاثي الأبعاد يعكس أهمية فاغنر في عقل بوتين "الاسترالوجي" الذي يعكس حاجته الشديدة إلى فاغنر بوصفها ذراعه الخارجية الضاربة التي أعادت صناعة وترميم نفوذ روسيا الخارجي في مواقع النفوذ التقليدية لروسيا وقبلها للاتحاد السوفياتي. وهنا تبدو رمزيّة ومغزى مشاركة رئيس الإستخبارات الخارجية الروسية ناريشكين في اجتماع بوتين مع قادة فاغنر وزعيمها بريغوجين الذي تحدث في فيديو جديد عن توجهه وقواته بحدود 5 آب إلى بيلاروسيا، ما سبق وأثار قلق دول جوارها، بولندا، لاتفيا وليتوانيا، فضلاً عن أن كييف أقرب ميدانياً إلى بيلاروسيا مسرح عمليات فاغنر الجديد.
واشنطن تدرك أنّ "فاغنر" أعادت تثبيت نفوذ روسيا في القارة السمراء إنطلاقًا من ليبيا
وعلى خلفيّة تمرّد فاغنر، تحدّث كثيرون عن تصدّع هيبة الكرملين وهشاشة التحكم والسيطرة التي تسرّبت إليه، في حين أنّ تداعيات التمرّد لم تنعكس على جبهات القتال مع أوكرانيا وهجومها المدجّج بأحدث التنكولوجيات العسكرية الغربية، ليتضح أنّ غالبية جهود توهين قوّة بوتين، منطلقة من تمنيّات انهمك أصحابها في محاولة إجراء حصر إرث لمجموعة "مرتزقة فاغنر" الآيلة برأيهم الى التصفية بوصفها تشكّل تهديدًا قويًا لموسكو أكثر من واشنطن.
واشنطن، التي تكثّف ومنذ عدّة سنوات ضغوطها على بعض الدول الأفريقية، والعربية الأفريقية، بهدف طرد مرتزقة فاغنر منها، تدرك أنّ فاغنر تمكّنت من إعادة تثبيت نفوذ روسيا في القارة السمراء إنطلاقًا من ليبيا، التي لطالما ردّد بوتين ووزيره لافروف لازمتهم الشهيرة "لقد تعلّمنا من درس ليبيا"، ويقصدان بذلك "درس الغدر" الذي أصاب روسيا جرّاء تجاوز دول الناتو لقرار مجلس الأمن 1973 الخاص بـ"حماية المدنيين" الليبيين، والذي انتهى بتدمير ليبيا دولةً ونظامًا ومقدرات. تعلّمٌ وجد ترجمته الفورية في منع روسيا إسقاط النظام السوري، أولًا بالفيتو الروسي الصيني المزدوج، وثانيًا بالتدخل العسكري الذي قلب الموازين رأسًا على عقب.
تعلّمٌ، انعكس في ليبيا نفسها أيضًا، ليس فقط من خلال دعم الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، وإنّما من خلال تموضع قوات فاغنر معزّزة بمقاتلات السوخوي ومنظومات SS300 (وبعض المعلومات تتحدث حتى عن الـSS400" وقد اكتظّت بهم قواعد "القرضابية" بخليج سرت، و"تمنهنت" في الجفرة جنوبي ليبيا، و"الخروبة" شرقي ليبيا.
وعبر ليبيا التي هي بمثابة "قرم افريقيا" بالنسبة لروسيا، انطلقت فاغنر باتجاه دول الساحل والصحراء، فدعمت عدّة محاولات إنقلابية ناجحة في مالي وافريقيا الوسطى وبوركينا فاسو وحظيت بالتعاون مع النيجر والجزائر فضلًا عن السودان المطالبة بقاعدة روسية في بورتسودان وغيرها. وقد تزامن صعود نفوذ روسيا في الساحل والصحراء، مع هبوط، بل وتبخّر، نفوذ وتواجد فرنسا العسكري والفرنكوفوني في كل هذه البلدان، باستثناء عدة قواعد في تشاد، التي لم يعد سرًّا أنّ رئيسها الجديد محمد ادريس ديبي الذي فشلت القوات الفرنسية في حماية والده المقتول، بات يشعر بالأمان أكثر فيما لو انتقل إلى مربعات روسيا الأمنية.
الأمريكيون هم أصحاب السبق في تأسيس شركات المرتزقة العسكرية ومن بينها "بلاك ووتر"
قبل أشهر من مشهد اللقاء أو المصالحة بين ركني "بريغوتين"، لا بدّ من التوقف عند الوفود الأمريكية المتتالية التي ضمّت مدير المخابرات وليم بيرنز، ومساعدة وزير الخارجية باربارا ليف، وبعض قادة أفريكوم الذين التقوا منفصلين قائد الجيش الليبي خليفة حفتر وغيره من متنفذي ليبيا لغاية مركزية محدّده، وهي ليس ابتعادهم عن "مرتزقة فاغنر" فحسب، بل والعمل على طردها من ليبيا، مقابل إغراء حفتر خاصّة ببعض المكتسبات السياسية.
ويبدو أنّ "الرسالة النارية" التي تلقتها قاعدة "الخروبة" قرب بنغازي والتي تتمركز فيها "مرتزقة فاغنر" بواسطة مُسيّرات مجهولة، جزمت مصادر ليبية خاصة بتبعيّتها لقوّات أفريكوم الأمريكية، وتكهّنت مصادر أخرى بتبعيتها للقوات التركية، تشي بعدم استجابة حفتر للأمريكيين الذين حوّلوا الإغراء والترغيب، إلى ترهيب عبر الرسالة النارية لقاعدة الخروبة الفاغنرية التي تشكل حماية دفاعية إضافية لقاعدة "الرجمة" التي يتخذها خليفة حفتر مقرًا له.
في الحديث المستغرق عن المرتزقة التي توصف بها فاغنر، نذكّر بأنّ الأمريكيين هم أصحاب الفضل والسبق في تأسيس شركات المرتزقة العسكرية، ومن بينها شركة بلاك ووتر التي انفضح دورها بداية إحتلال العراق، بعد تعليق بعض جثث عناصرها على أعمدة الكهرباء بمداخل مدينة الفلوجة.
ممّا تقدم يتبيّن بوضوح أن فاغنر هي الذراع الضاربة التي تؤمّن مصالح روسيا العليا في افريقيا والمنطقة برمتها، ولهذا السبب علينا فهم أبعاد "التسوية الحكيمة" التي أبرمها بوتين (الذي يغفر كل شيء إلّا الخيانة) مع بريغوجين. وللسبب عينه ينبغي فهم أبعاد الإصرار الأمريكي على طرد فاغنر من افريقيا والمنطقة.
حرب السودان التي أخفقت الوساطة السعودية الأمريكية في إيقافها مرشّحة لوراثة وظيفة حرب اليمن
وبين مسوّغات الطرفين الأمريكي والروسي ومبرّراتهما الاستراتيجية، علينا أن ندرك أن منطقتنا من سوريا إلى دواخل افريقيا هي محل صراع وتجاذب كبير فاقمته حرب السودان بعد نجاح السعودية بالتفاهم مع إيران بوساطة الصين في إخماد حرب اليمن ولو جزئيًا.
لكنّ حرب السودان التي أخفقت الوساطة السعودية الأمريكية في إيقافها مرشّحة لوراثة وظيفة حرب اليمن، سيّما إذا اقتضت المصلحة الإستراتيجية الأمريكية إشعال الوضع من باب المندب إلى قناة السويس، ما دفع القاهرة التي غُيّبت عن مفاوضات جدّة، إلى أن تستشعر مخاطر الحرب السودانية الأمنية والإقليمية والإنسانية، والمبادرة لتنظيم مؤتمر "قمة لدول جوار السودان" علّه ينجح في إنتاج خريطة طريق حلّ الأزمة السودانية، ومنع تمدّد نيران السودان إلى جواره.
(خاص "عروبة 22")