وجهات نظر

.. حتى لا تخذلنا السياسة مرّة أخرى!

عندما صمتت المدافع في حرب أكتوبر/تشرين الأول (1973) تبدت مفارقات موجعة بين الذين عبروا الجسور من أجل أن يرفع البلد رأسه، والذين داسوا على كل معنى قاتَل من أجله المصريون.

.. حتى لا تخذلنا السياسة مرّة أخرى!

بعد خمسين سنة نشبت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023) حرب جديدة تقوضت فيها هيبة الجيش الإسرائيلي ونظرية أمنه قبل أن تتحوّل بتواطؤ أمريكي شبه مطلق إلى إبادة جماعية وتجويع منهجي حتى ييأس الفلسطينيون من أي مقاومة للاحتلال، أو أي أمل في تقرير مصيرهم بأيديهم.

في (1973) خذلت السياسة بطولة السلاح، خرجت مصر باتفاقيتي "كامب ديفيد" من الصراع العربي الإسرائيلي وجرى تهميش أدوارها في محيطها وعالمها ودفعت القضية الفلسطينية الثمن مضاعفًا.

ثمة خشية الآن من خذلان آخر أخطر وأفدح للقضية الفلسطينية على حساب التضحيات الهائلة التي بُذلت لإحيائها من جديد بعد أن كادت تدخل دفاتر النسيان.

هُزمت إسرائيل استراتيجيًا وأخلاقيًا. هذه حقيقة لا يصح تبديدها بأن تفلت إسرائيل من العقاب على جرائمها.

مخاوف من أن تجهَض ثمار تضحيات أهالي غزّة مرّة بمقتضى الضغوط والمساومات ومرّة بمقتضى الحسابات والمصالح

تبديد نتائج التضحيات التي دُفع ثمنها دمًا وتجويعًا، جريمة تاريخية متكاملة الأركان.

إنها تكرار أسوأ وأفدح لتبديد ثمار النصر العسكري في أكتوبر/تشرين الأول (1973).

إثر هزيمة (1967) علت في المشهد الداخلي نداءات التغيير بقدر دعوات التعبئة العامة ذاتها حتى يتسق أداء الجبهة الداخلية مع ما كان يجرى من تضحيات في الخنادق الأمامية.

جيل حرب أكتوبر/تشرين الأول هو نفسه جيل ثورة يوليو/تموز ومجانية التعليم والحق في الثروة الوطنية والأحلام الكبرى التي لامست السماء قبل أن تسقط من حالق.

لم يكن كل شيء مثاليًا، فقد كان هناك من يحاول استثمار أجواء الحرب لمقتضى مصالحه الخاصة، لكنها - على كل حال - تجربة إنسانية بإيجابياتها وسلبياتها، بأبطالها ولصوصها.

بعد أن توقفت الحرب بدأ عصر "القطط السمان" - حسب التوصيف الذي شاع وقتها.

لست سنوات كاملة في الخنادق الأمامية أرجأ الجيل الذي حارب طموحاته وحقوقه الأساسية في بناء حياته الخاصة، إلى ما بعد تحرير سيناء المحتلة ودفع الثمن كاملًا دون ادعاء بطولة.

ثم كان عليه أن يدفع الثمن - مرة ثانية - من مستقبله بعد سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي دشنها الرئيس أنور السادات عام (١٩٧٤)، وأطلق عليها الأستاذ أحمد بهاء الدين: "انفتاح السداح مداح".

عندما عاد الذين قاتلوا من ميادين القتال وجدوا مجتمعًا غير الذي حاربوا من أجله وسياسات غير التي أملوا فيها.

خذلت السياسة البلد كله، دوره ومستقبله ومصيره.

في ظروف جديدة ومختلفة تتبدى الآن مخاوف مقاربة من أن تجهَض ثمار التضحيات الهائلة التي بذلها أهالي غزّة.

مرّة بمقتضى الضغوط والمساومات الإقليمية والدولية تحت الضغط العسكري الإسرائيلي دون سند عربي شعبي فاعل ومؤثّر.

ومرّة أخرى بمقتضى الحسابات والمصالح الصغيرة داخل البيت الفلسطيني حيث بدا البيان الذي أصدرته السلطة الفلسطينية باسم "حركة فتح" مخجلًا ومفجعًا إثر تحفظ الفصائل الفلسطينية الأخرى على إعلان حكومة فلسطينية جديدة دون تشاور مسبق، كما كان متفقًا عليه في اجتماع موسكو.

حق الاختلاف مكفول للأطراف كافة، تجاوز لغة الخطاب مسألة أخرى في لحظة إبادة وتجويع تستهدف الوجود الفلسطيني كله.

بروحه وصياغاته وأهدافه نسف البيان المنسوب لـ"فتح" أية فرصة، أو أمل في إنهاء الانقسام وإعادة بناء البيت الفلسطيني وفق برنامج وطني مشترك يستجيب للتحديات الماثلة والمنتظرة.

أفلتت عبارات ووردت ألفاظ وأوصاف تحض على تكريس الانشقاق والنزاع الداخلي.

لا تخفى في البيان نزعة التمسك بالسلطة، أيًا كانت الأثمان المطلوبة.

كان لافتًا ما ورد فيه من ألفاظ وصيغ تعود للقواميس القديمة في الهجاء السياسي الفلسطيني كأن توصف قيادات "حماس" بـ"مناضلي فنادق السبع نجوم"، أو أن تتهم دون دليل وسط مفاوضات قاسية ومعقدة أنها "تعمي عيونها عن رؤية معاناة شعبها"، و"أن كل ما يعنيها من التفاوض مع نتنياهو هو الإبقاء على دورها الانقسامي في غزّة"!!

لا جديد في تلك الاتهامات، التي دأب رئيس السلطة محمود عباس على ترديدها منذ الانقسام الفلسطيني المروع عام (2007).

القصة مؤلمة وقد ارتكبت فيها أخطاء فادحة، لكن تكرارها الآن وسط حرب إبادة تعبير عن رغبة مقصودة لتكريس الانقسام الفلسطيني لمقتضى البقاء في سلطة متوهمة!!

لا بد أن تكون للفلسطينيين كلمة تفرض إنهاء الانقسام على أُسُس وطنية صحيحة

الأخطر تحميل "حماس"، لا الاحتلال، مسؤولية المجازر والتجويع.. "إنّ من تسبب في إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزّة ووقوع النكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني لا يحق له إملاء الأولويات الوطنية".

من يحدد إذن الأولويات الوطنية الفلسطينية؟

لا يمكن بأي منطق استبعاد "حماس" و"الجهاد" و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، الذين تحمّلوا بدرجات مختلفة مسؤولية المقاومة.

كما لا يمكن أن تقتصر تلك المهمة على سلطة لم تشارك في الحرب، ولا اتخذت أية إجراءات أو مواقف يُعتد بها في مقاومة الانتهاكات والاغتيالات والاقتحامات الإسرائيلية اليومية لمدن الضفة الغربية.

في ذلك البيان ورد تساؤل مثير ومستغرب: "هل شاورت حماس القيادة الفلسطينية عندما اتخذت قرارها القيام بمغامرة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، التي قادت إلى نكبة أكثر فداحة من نكبة 1948؟".

بافتراض أنّ "حماس" أبلغت السلطة فعلًا بموعد وتفاصيل العملية فإنه لا شك أنّ المعلومات الخطيرة سوف تصل إلى أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية في التو واللحظة.

وصف العملية الاستثنائية بأنها "مغامرة"، انقلابٌ سياسي كامل ومنذر على تصريحات سابقة منسوبة لقيادات "فتح" أضفت عليها صفتي البطولة والإجماع باعتبارها تحديًا شجاعًا ومشروعًا للاحتلال.

حتى لا تخذل السياسات المتهافتة بطولة وتضحيات الصمود الأسطوري في غزّة، لا بد أن تكون للفلسطينيين كلمة أخرى تردع وتصحح وتفرض إنهاء الانقسام على أُسُس وطنية صحيحة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن