وجهات نظر

الدول العربية وأسباب التباين بين الفقر والغنى

تُقدّم لنا الأرقام التي توفرها هيئات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عن الاقتصاديات العربية من حيث مستوى الدخول القومية والفردية صورة عن عالم عربي تسوده فروقات كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي ومستويات متباعدة في الرفاهية. لكن السؤال ليس هو سبب وجود الفروقات، وإنما كيف للبلدان الفقيرة والمتوسطة أن تلتحق بالبلدان الغنية في المنطقة العربية؟.

الدول العربية وأسباب التباين بين الفقر والغنى

هناك إجابات متنوعة وكثيرة لهذا السؤال الكبير والمؤرق، ويبدو أنّ ثنائية التخلّف والتقدّم، والفوارق بين الأمم الغنية والفقيرة في العالم حيّر الكثير من الألباب والجميع بحث عن اللغز المحيّر الذي يُفسر لماذا تقدمت بلدان غنية وبقيت بلدان فقيرة تراوح مكانها. في البداية سأعطي بعض المعطيات الاقتصادية العربية، وفي الأخير أحاول ان أقدّم حلًا لهذا اللغز المحيّر لسرّ التقدم الاقتصادي.

يُقسّم البنك الدولي العالم العربي إلى اقتصاديات غنية بالموارد (السعودية والإمارات مثلًا) واقتصاديات فقيرة الموارد (اليمن وسوريا مثلًا)، يصل الدخل الفردي في البلدان الغنية منها إلى 50 ألفًا و70 ألفًا في السعودية والامارات (سنة 2020) ولا تتجاوز البلدان الفقيرة بالموارد مثل اليمن 3600 دولار في السنة، وبتقسيم مجمل الناتج المحلي على عدد السكان وفي المتوسط بلغ الدخل الفردي في العالم العربي 15216 دولارًا (سنة 2020) ويشغل العالم العربي 11.6 بالمئة من مساحة الكرة الأرضية و5.8 بالمئة من سكان العالم (سنة 2019) وناتج إجمالي بلغ 3701 مليار دولار (4,1 بالمئة من الناتج الإجمالي في العالم أي 17471 دولارًا كدخل فردي).

بعد "الحراك" اقترح صندوق النقد تصنيفًا للاقتصاديات العربية حسب "الدخول": بلدان متقدّمة وصاعدة وذات دخل منخفض

وحسب البنك الدولي، يمكن تقسيم البلدان العربية حسب مستوى الدخل الفردي إلى 4 طبقات. طبقة الدخل المرتفع (أكثر من 12 ألف دولار للفرد) وتضم السعودية، الامارات، البحرين، الكويت، عمان وقطر. وطبقة الدخل المتوسط العليا (بين 4000 و12 ألفًا) وتضم الجزائر، لبنان، ليبيا، العراق والأردن. وهناك طبقة الدخل المتوسط الدنيا (بين ألف و4 آلاف) وهي جيبوتي ومصر، المغرب، موريتانيا، فلسطين، السودان وتونس. وأخيراً، هناك طبقة الدخل الأدنى (أقل من ألف دولار) وهي سوريا واليمن.

كما يقوم البنك الدولي بتصنيف اقتصاديات العالم العربي حسب طبيعة الموارد الطبيعية (النفط والغاز) والبشرية (اليد العاملة المؤهلة) التي يقوم عليها، وهنا ينقسم العالم العربي إلى اقتصاديات فقيرة الموارد غنية اليد العاملة (مصر، الأردن، المغرب، تونس، لبنان، جيبوتي وتونس) واقتصاديات غنية الموارد وغنية اليد العاملة (الجزائر العراق، سوريا واليمن) واقتصاديات غنية الموارد ومستوردة لليد العاملة (السعودية، الإمارات، الكويت، قطر، عمان والبحرين).

وبعد "الحراك العربي"، اقترح صندوق النقد الدولي تصنيفًا للاقتصاديات العربية حسب مستوى الدخول إلى بلدان متقدّمة (دول مجلس التعاون الخليجي) وبلدان صاعدة (المغرب العربي ولبنان ومصر، والعراق والأردن) وبلدان ذات الدخل المنخفض (جيبوتي، اليمن وسوريا).

روّاد الأعمال يحتاجون إلى بيئة قانونية آمنة تحفظ لهم ملكية الموارد وتوفّر لهم العدالة المستقلة

بيت القصيد اليوم: ماذا وراء كل هذه الأرقام وماذا يفسّر كل هذه الفروق بين البلدان العربية؟ لماذا هناك بلدان غنية وبلدان فقيرة في العالم العربي؟ وكيف يمكن للبلدان الفقيرة والصاعدة أن تلتحق بمصاف الدول العربية الغنية؟ وكيف للبلدان الغنية أن تحافظ على نمو مستدام غير مرتبط بتقلبات أسواق الطاقة؟ وكيف للبدان المتوسطة أن تستفيد من مواردها البشرية المؤهلة والماهرة في رفع الإنتاجية؟

يتّفق الاقتصاديون أنّ الإنتاجية هي العامل الأساسي المفسّر للنمو الاقتصادي والمقصود به إنتاجية رأس المال وإنتاجية العمل. ولكن هناك العديد من النظريات لتفسير الفروق في مستويات الإنتاجية في الاقتصاديات المختلفة، فهناك نظريات ركّزت على العوامل الجغرافية والعوامل الرأسمالية الفيزيائية والتكنولوجية والمالية والبشرية ومدى توفر البلد على اقتصاديات المعرفة المبتكرة، لكن كل هذه العوامل يجب أن يستخدمها رواد الأعمال الذين يخاطرون بالموارد المختلفة (مادية وبشرية) من أجل إنتاج الأشياء ذات القيمة والمنفعة للناس، وواضح أنّ رواد الأعمال هؤلاء يحتاجون إلى بيئة قانونية آمنة تحفظ لهم ملكية الموارد من أيّ تعسف أو عنف من قبل أصحاب النفوذ والسلطة السياسية وتوفّر لهم العدالة المستقلة وسلطات فاعلة في إنفاذ القانون.

سرّ التقدّم الاقتصادي هو أنه لا يعتمد على أيّ سرّ

نزعم أننا إزاء الخلطة السحرية للنمو الاقتصادي والتي محورها هو الإنسان المخاطر والمبدع والبيئة الآمنة التي ترعى الازدهار مثل أرض خصبة طيّبة ينبت فيها كل نبات طيّب ذي ثمار نافعة. هذه الخلطة أحيانًا تأتي بالصدفة ولا تكون نتيجة تخطيط مسبق، وهي مثل العمل الزراعي الذي يكون دوره فقط توفير الشروط التي تسمح بنموّ الزرع والثمار، وليست مثل الصناعة (أو العمل الحرفي) التي تحتاج إلى صورة مسبقة في الذهن وتكون نتاج التصميم وعمل الأيادي الراعية.

إنّ سرّ التقدّم الاقتصادي هو أنه لا يعتمد على أيّ سرّ، هكذا قال فردريك هايك (توفي 1992) الحاصل على نوبل الاقتصاد في 1974، فالإنسان وتفاعله مع البيئة هو مصدر كلّ التحديات وكلّ المعجزات في آن. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن