تقدير موقف

في بيان ما قد غاب عن "البيان"

بداية، هذا ليس مقالًا في "خلافٍ" يحاول البعض، عن غفلةٍ أو سوء نيةٍ أن ينفخ فيه، بل هو وفقط للتذكير ببدهياتٍ أحسب أن "لا خلاف" عليها، ولتصحيح مفاهيم ربما التبست عند هذا أو ذاك تحت وطأة ما يراه من قتل ودمار وإبادة جماعية ومحاولة تهجير لشعبنا في غزّة والضفة.

في بيان ما قد غاب عن

فليس الحديث عن خلاف، وكل خلاف في الرأي مشروع، إلا أنّ السكوت عن التذكير الواجب بما هو بدهي، يبقى بالضرورة من واجب الوقت. ثم أن "البيان" في اللغة ومعاجمها، لا يعني غير إيضاح ما قد غمض والتبس، ولذا فأحسب أنّ ما سُمي "بيانًا" نُسب إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" يحتاج في ذاته إلى "بيانٍ" يوضح لجماهيرنا التي وعت في ستينيات القرن الماضي على فتح حركةً "للتحرير"، أنّ "التحرير"، وإن لم يعتبر البعضُ أن طريقَه، الذي بات واضحًا - بعد سبعين عامًا على النكبة، وثلاثين عامًا على أوسلو ــ أصبح فرضَ عين، فهو على الأقل فرضُ كفاية، يحُمَد من تحمّل عبئه عن رفاق الطريق والسلاح.

لم يكن حبر توقيع ممثلي الفصائل الفلسطينية الأربعة عشر على بيان موسكو ذي النقاط التسع، والذي اتفقوا فيه على "التوافق"، ووحدة العمل على تحقيق الأهداف، التي "لا خلاف" حولها حتى بدا أنّ هناك من ما زال أسير استقطاباته التقليدية التي كنا نحسب أن لم يعد لها مكان، أو لا يصح أن يكون لها مكان وسط كل هذه التضحيات الأسطورية التي نراها، ويراها معنا العالم على الهواء مباشرة.

لا ينبغي الانجراف إلى حديث عن "خلاف" بين فصيلين حمل أحدهما راية المقاومة إلى أن تسلّمها الآخر

في البداية صدر بيان باسم فصائل أربعة، وربما يجدر التذكير هنا بأنّ بيان المقاومة "الرباعي" هذا لم يكن بيانًا لـ"حماس"، بل ولم يكن قاصرًا حتى على الفصائل الإسلامية، ولا على غزّة. فبين الموقعين: الجبهة الشعبية "اليسارية"، والمبادرة الوطنية التي أطلقها مصطفى البرغوثي من رام الله. أي أنه، سواء اتفقت مع ما ورد فيه من "تحفظات" أم لا، فهو بصيغته تلك كان بيانًا "فلسطينيًا/وحدويًا" بامتياز.

لن أتوقف عند بيان الفصائل الأربعة والذي تشير تحفظاته إلى ما قد يراه البعض خلافًا مع "السلطة". فكل خلاف في الأنظمة الديموقراطية مقبول. كما أنّ بيانًا "توضيحيًا" مقابلًا من السلطة، أو فصيلها، لم يكن ليسترعي الانتباه، أو يستدعي كل هذا التشفي والاحتفاء الصهيوني، لولا لغة البيان المذكور، ومضمونه، وتماهيه الواضح والفاضح مع البروباجاندا الإسرائيلية، وهو وحده ما يستدعي منا إعادة التذكير بما ربما قد غاب، بحسن نية أو دونها عن كاتب هذا البيان.

دعونا نلاحظ أولًا أنّ البيان، الذي لن أسميه بيانًا "فتحاويًا" هو، بالتعريف بيانٌ "لقيط" نُسب إلى "فتح" دون تحديد صاحبه، رغم أنّ للحركة أطرها التنظيمية المعروفة: مجلس ثوري ولجنة مركزية، ولم نسمع أنّ أيّهما "تبناه"، قبل أن يكتبه أحدهم على صفحة على "فيسبوك" دون أن ينسبه إلى أي من الكيانين المسؤولين.

بل لعلي لا أفشي سرًا حين أقول إنّ صديقًا من داخل هذه المستويات التنظيمية قال لي إنه وغيره لم يعلموا أبدًا بأمر هذا "المنشور"، وإن كان الخوض في هذا أيضًا، ودلالاته ليس من "واجب الوقت".

قد يكون صحيحًا، وهو كذلك ما يذكره البيان المنسوب إلى "فتح" أنّ من حق الرئيس "وحده" تكليف من يشاء بتشكيل الحكومة، وأنّ القانون الأساسي لا يلزمه بالتشاور مع أحد. لا مخالفة دستورية إذن! 

لو اكتفى البيان المذكور بهكذا "توضيح"، ربما لم نكن لنتساءل إن كان من باب "الانفصال عن الواقع"، والتعبير مقتبس من البيان المذكور ذاته، أن يمارس الرئيس صلاحياته هكذا دون إدراك لواقع غير عادي، يتطلب في ظروف المعركة، وأولوية الاصطفاف الوطني، ووحدة الجبهة الداخلية ما هو أكثر من مجرد التحجج بالنصوص؟!

ولو اكتفى البيان المذكور بهكذا توضيح، لم نكن لنتساءل إن كان من باب "الانفصال عن الواقع" ما ورد فيه من إدانة لما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من "فعل مقاوم"، في تجاهل واضح لـ"واقع" أنّ الفعل الآخر لم يفضِ بعد كل المحاولات، بل والتنازلات، سوى إلى تكريس للاحتلال؟! وأنّ في "الواقع" الذي يدعونا البيان المذكور إلى عدم الانفصال عنه حقيقة أنّ الفلسطينيين ذهبوا إلى أوسلو قبل ثلاثين عامًا ليعودوا بوعد لم يتحقق أبدًا ("حل نهائي خلال خمسة أعوام يسفر عن دولة مستقلة"). وأنّ العرب، رغم حصار إسرائيلي عسكري لياسر عرفات في المقاطعة اختاروا السلام "خيارًا استراتيجيًا" في بيروت عام 2002، فلم يرد عليهم الإسرائيليون إلا بالتغيير "الاستراتيجي" للواقع على الأرض؛ استيطانًا، وتهجيرًا قسريًا، وجدرانًا عازلة، وتطبيعًا مجانيًا مع "الأشقاء".. ثم بإعلان نتنياهو قبل أسبوعين فقط مما جرى في أكتوبر/تشرين الأول من فعلٍ مقاوم عن "نهاية القضية".

نتنياهو لا يريد غير عملاء لمشروعه الشرق أوسطي ولا يفرّق بين "فتح" و"حماس" وغيرهما من فصائل

ديموقراطيًا، لا مشكلة مع أي نقد أو حتى محاكمة لهذا الإجراء العسكري أو ذاك، فهذا مما لا غبار عليه - في توقيته الملائم -، إلا أنّ حديثًا مثل هذا لا ينبغي أن تغيب عنه بدهيات لا أعرف كيف غيّبتها عصبية الاستقطاب عن البيان المنسوب إلى "فتح"، وأولها أنّ إسرائيل دولة احتلال بموجب القانون الدولي، وأنّ مقاومة الاحتلال بكل وسيلة كانت حق مشروع في كل الأعراف والقوانين، وأنّ معاناة الفلسطينيين، التي تتعاظم يومًا بعد يوم تحت الاحتلال المستمر لعقود يعرفها كل فلسطيني، وأنّ حرب الإبادة، كما العدوان على الشعب الفلسطيني من النهر إلى البحر - في الضفة وغزّة والداخل - لا مسؤول عنها غير دولة الاحتلال الاستعمارية، التوسعية، العنصرية. وأنّ أيّ حديث بغير هذا لا يعدو أن يكون ترديدًا لمحاولة الكيان الصهيوني التأريخ بالسابع من أكتوبر/تشرين الأول كبداية للصراع والمعاناة.

لم يخطئ البيان المنسوب إلى "فتح" في حديثه عن "نكبة جديدة"، ولكن علينا أن نتذكر أنّ النكبة، وإن اختلفت وسائلها كانت ماضية في طريقها "الشرق أوسطي" الذي أشار إليه منتشيًا بنيامين نتنياهو، حاملًا خريطته الملونة في خطابه الأممي الشهير في سبتمبر/أيلول، معلنًا أنّ "القضية قد انتهت.. وليس للفلسطينين حق الاعتراض" وهو الطريق الذي لم يكن له أن يُقطع لولا ما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، رغم فداحة ثمنه إنسانيًا، والذي يتناسب بالمناسبة مع فداحة ما كان يخطط له نتنياهو وشركاؤه ومدى صدمتهم بإجهاضه.

يبقى أنه لا ينبغي لي أو لغيري الانجراف إلى حديث، ليس في وقته عن "خلاف" بين فصيلين حمل أحدهما راية المقاومة إلى أن تسلّمها الآخر، فليس هذا وقت حسابٍ أو عتابٍ، أو مفاصلة. وأن الأمر لا ينبغي أن يتجاوز بيان ما قد غفل عنه البعض في تلك الأجواء المدلهمة من بدهيات.. وتاريخ.

أكرر وأشدد أنّ هذا ليس وقت المناكفات، كما أنه ليس وقت عصبية الجاهلية، بالوقوف بالمطلق مع هذا الطرف أو ذاك. لا يوجد الآن، ولا ينبغي أن يوجد الآن غير "طرف واحد": الشعب الفلسطيني الواحد في الضفة، وغزّة، والشتات، وفي "فتح"، و"حماس"، و"الجهاد"، و"الشعبية"، و"الديموقراطية"، و"المبادرة"، وغيرهم من فصائل. كما أنّ "سؤال الوقت" هنا ليس إذا ما كان هناك خلاف، أو اختلاف في الرؤى بين هذا الفصيل وذاك، بل هو: كيف يمكن تجاوز كل ذلك لبناء جبهة موحّدة حول الهدف الموحّد؛ يحمل هذا السلاح، ويذهب رفيقه إلى طاولة المفاوضات، كما هو الحال في كل حركات التحرّر التي قرأنا عنها في كتب التاريخ.

جيلنا عرف "فتح" في ستينيات القرن الماضي مع أغنية أم كلثوم "أصبح عندي الآن بندقية"

"لن أسمح باستبدال حماسستان بـفتحستان"، هكذا قال بنيامين نتنياهو، الذي لا يريد غير عملاء لمشروعه الشرق أوسطي الهادف إلى تصفية القضية. هو إذن لا يفرّق بين "فتح" و"حماس" وغيرهما من فصائل. أفليس من الحماقة ألا نقرأ تصريحه هذا جيدًا.

وبعد،،

فعلى الذين يستكثرون أو يستنكرون في بيانهم اللقيط بندقية المقاومة، أن يتذكروا أنّ شعار "فتح" به بندقيتان، وأن جيلنا عرف "فتح" في ستينيات القرن الماضي مع أغنية أم كلثوم "أصبح عندي الآن بندقية"، وأنّ الشهيد أبو جهاد، أحد القادة المؤسسين لـ"فتح" كان في الأصل عضوًا في "الإخوان المسلمين"، ولم يغادرها إلا اعتراضًا على رفضها في حينه لفكرة الكفاح المسلّح.. يا لها من مفارقة.

رحم الله "الختيار"، الذي عرف دومًا قيمة وحدة الصف. والمجد للشهداء من رفاقه الأوائل؛ المناضلين "الفتحويين" الحقيقيين، الذين عرفوا قيمة المقاومة و"الثورة حتى النصر".. والعار كل العار لـ"ورثة" هكذا ثورات.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن