بصمات

العمران والحداثة (2/2)مراحل التحديث العمراني

إذا أردنا ان نقسم مراحل العمران إلى فترات، فإنّ الإشارات التي أوردناها تنتمي إلى ما يمكن اعتباره فترة أولى حين كان التحديث العمراني ناتجًا عن إرادة فئة من المحدثين المؤمنين بأن التحديث عامة هو الطريق لاستعادة المكانة وإحراز القوة والسير في اتجاه التقدّم. وقد عبّر عن ذلك خير الدين التونسي الذي قال في مقدمة أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك: "إنّ التمدن الأوروباوي قد تدفق سيله في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيخشى على الممالك المحاورة لأوروبا من ذلك التيار. إلا إذا أخذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية، فيمكن نجاتهم من الغرق".

العمران والحداثة (2/2)
مراحل التحديث العمراني

وتشمل هذه الفترة مدى زمنيًا يبدأ مع عصر التنظيمات وفي نهاية القرن التاسع عشر كانت أبرز المدن الكبرى قد عرفت نشوء تحسين عمراني يؤمن الخدمات الحديثة والمستجدة إضافة إلى السرايات التي هي رمز السلطة في عصر التنظيمات، والملفت في عدد من المدن كبيروت وحيفا وطرابلس والقدس، أبراج الساعة التي تعبّر عن التوقيت الحديث مقابل التوقيت الذي يسمى زوالي.

أما الفترة الثانية فهي التي احتل فيها الأوروبيون بلدانًا مثل تونس ومصر ثم بلاد المشرق. والتي أسفرت عن انقسام ثقافي بارز بين الحيّز القديم والحيّز الحديث من المدينة. إذ تقوم مراكز السلطة ومبانيها الرمزية مثل البرلمان ومبنى البلدية والمتحف وغيرها في المدينة الحديثة التي تأخذ أكثر فأكثر عادات المدن الأوروبية في الأزياء وارتياد المقاهي والمسرح فضلًا عن استقطابها للنشاط التجاري، وتصبح اللغات الأوروبية شائعة الاستخدام في القاهرة كما في بيروت والإسكندرية. بينما ينكفئ الأهالي إلى مدينتهم القديمة التي تصبح موئل الوطنية وحركات الاحتجاج مع سيادة اقتصاد حرفي تقليدي وروابط عائلية وتمسك بالطقوس الدينية. ولا بد من الإشارة إلى إسهام المهندسين المحليين في تنفيذ مشاريع أبنية حديثة سكنية أو مدرسية وفندقية. ولم يعد التحديث العمراني يقتصر على حيّز محدود بل شمل التوسع وإنشاء مناطق عمرانية جديدة.

المرحلة الثالثة هي مرحلة ما بعد الاستعمار، التي يمكن إرجاعها إلى ثلاثينات القرن العشرين حين عقدت معاهدات منحت بها بلدان المشرق ومصر استقلالًا مشروطًا. وتسلّم رجال يتحدرون من سوريا والعراق من المدرسة العثمانية، وفي مصر من رجالات تشاركوا في ثورة 1919، أي أنهم مؤمنون بالتحديث مع تبنّي الأيديولوجيات القومية.

ففي مصر كان ثمة نزعة مصرية فرعونية مقابل نزعة إسلامية عروبية. إلا أنّ ذلك لم يترجم في العمارة إلا في أمثلة محدودة، كاستلهام الزخرفة الإسلامية في بناء المتحف الإسلامي مقابل استلهام العمارة الفرعونية في ضريح سعد زغلول. وفي لبنان فإنّ مبنى المتحف الوطني يصعب تحديد هويته التاريخية وما إذا كانت أعمدته تستلهم الآثار الرومانية أو الفرعونية أو غير ذلك.

مع سيطرة الأنظمة الأيديولوجية الشعبوية صار التحديث الجارف يترافق مع عداء للغرب وثقافته وآدابه

كانت الحكومات مهتمة بما هو أكثر إلحاحًا مثل المسائل المتعلقة بالتعليم والاقتصاد فضلًا عن المسائل السياسية التي طرأت بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصًا القضية الفلسطينية وما نتج عنها من آثار لجوء الفلسطينيين إلى البلدان المجاورة، إضافة إلى هجرات سابقة وخصوصًا للأرمن مما فرض إقامة أماكن لجوء على عجل لا تتقيّد بشروط العمارة وإلا التخطيط المدني، وكذلك الهجرة من الريف إلى المدينة وخصوصًا إلى العواصم بحثًا عن فرص عمل، ونمو ما يسمى العشوائيات، مثل في بغداد أو دمشق أو بيروت أو القاهرة أو عمان حيث ازدادت نسب السكان فيها وتضاعفت عشرات المرات.

لكن النزوح لم يأتِ من خارج المدينة فقط، وإنما من داخلها، فحدث انتقال من المدينة القديمة إلى المدينة الحديثة أو إلى أطرافها وتمدد العمران باتجاهات بقدر ما يسمح المدى فنمت مساحات عمرانية لا تخضع لشروط التخطيط ولا لمقاييس العمارة المعتمدة.

أما المدينة القديمة التي كانت موئل الوطنية والتراث والطقوس، فقد أصبحت عبثًا على قاطنيها بسبب تباعد أماكن العمل والدراسة، في زمن انتشار وسائل النقل العامة والخاصة. كما أصبحت عبئًا على السلطات البلدية والحكومية، وعادة ما كانت تشق فيها الطرقات لعبور وسائل النقل، مما يتسبب بهدم معالم أثرية، فضلًا عن الإهمال الذي يطال أغلب معالمها.

ومنذ خمسينات القرن العشرين بلغ التحديث ذروته إذ أخذت المظاهر التقليدية في الأزياء والطقوس تنحسر أمام تصاعد الشغف بالمظاهر الحديثة. ذلك أنّ التحديث العمراني وفي الحياة اليومية لم يعد يقتصر على الميسورين وذوي الثقافة الغربية، فقد صار بمقدور الطبقات المتوسطة الحال اقتناء الأدوات المنزلية التي تساعد على تجاوز وتخطي الأدوات التقليدية التي تشتغل على الحطب والفحم والكاز. حدث ما يمكن أن نسميه ديمقراطية الأدوات وكذلك ديمقراطية الأزياء، فتّم التخلّي عن كل ما يرمز إلى عادات أصبحت من الماضي، أو تلك التي تدل على جهة أو إقليم أو ريف أو غير ذلك (مثل الطربوش والسروال والجبة والعقال). كل ذلك كان يعني تهجين الحداثة وبروز نموذج لحداثة تتبنى المظاهر والأشكال دون المضامين. لم تعد الحداثة خاصة بالطبقات الميسورة، أو خاصة فئات ثقافية تتبنى القيم الغربية. وفي الستينات من القرن الماضي وما بعدها، ومع سيطرة الأنظمة الأيديولوجية الشعبوية صار التحديث الجارف يترافق مع عداء للغرب وثقافته وآدابه.

كل ذلك انعكس على العمران، وخصوصًا مع الاستخدام المطرد للأسمنت والباطون المسلّح، وأدت الحاجات المستعجلة لإيواء الوافدين إلى المدن إلى التسامح في شروط البناء وعدم التقيّد بالشروط والقوانين، وخصوصًا في المساحات العمرانية التي ينطبق عليها اسم الضواحي الشعبية أو العشوائيات حيث تسود الأعراف مكان القوانين والارتجال بدل التخطيط، وأمام الضغوط المتنوّعة، فإن السلطات المحلية تتسامح وفي أغلب الأحيان تتواطأ مع النافذين، فمقابل غّض الطرف عن تطبيق قانون البناء، تطلب السلطات الولاء أو التعاون. في مصر تم تشريع العشوائيات وزودت بالكهرباء والماء. فلم يكن أمام السلطات حلول أخرى بالرغم من هذه العشوائيات قد أقيمت على أراضي مشاع أو أراضي الغير.

خلف الفقراء يقف مقاولون من كل نوع يتبارون في هدم تراث عمراني

في حمأة النمو السكاني المتسارع في المدن والعواصم خاصة، تزحف المناطق الشعبية إلى وسط المدينة الذي كان رمزًا لحداثة عصر التنظيمات، ينتقل السكان وكذلك رجال الأعمال إلى مناطق أخرى، وهكذا..

لم تعد المدينة القديمة هي التي يطالها الهدم وهجرة سكانها، لكن الوسط الحديث الذي كان يضم كل ما هو نشط، يهجره السكان ثم تهجره المؤسسات على اختلافها وأصحاب المهن الحرة، وليس دقيقًا ما يقوله آصف بيات عن زحف الفقراء، فخلف الفقراء يقف مقاولون من كل نوع يتبارون في هدم تراث عمراني كان في وقت غير بعيد وجه الحداثة وبذلك تخسر المدن تراث القديم والحديث على السواء.

هذه الحداثة الهجينة نجد تفسيرها في الأنثروبولوجيا السياسية حسب جورج بالانديه. فبعد مرحلة من التحديث السطحي غالبًا تتمكن التقاليد الموروثة في الاجتماع والثقافة والسياسة أن تستوعب التحديث وتطوعه، فلا يعود التقليد تقليديًا ولا يعود الحديث حداثيًا.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن