فضّل الكثيرون عبر مراحل التاريخ المختلفة العبودية على الموت، حيث كان الوجود يكفي للحياة، فأن تكون موجودًا يعني أن تكون حيًا وفقط، قبل أن تولد الحساسية الحديثة التي منحت الوجود جوهرًا سيكولوجيًا، فلا يكون الإنسان موجودًا ما لم يكن حرًا، لأنّ في كهف العبودية، حيث الاستسلام للخوف والعجز، يتساوى الوجود مع العدم، وتتماهى الحياة مع الموت.
في عالمنا العربي، حيث لا يزال الفرد يعرف بقبيلته، ويصطف خلف شيخها من دون هوية تميّزه، أو قدرة على اتخاذ مواقف تخصّه. وحيث الشخص لا يزال يحاسب على أفعال طائفته، ويصطف خلف رمزها، ولا يجرؤ على التصرف خارج إطار محرماتها. وحيث الزعيم الوطني يحتكر حق التعبير عن روح الأمة، بعد الربيع الكسير كما قبله، من دون اعتبار لمكوّناتها وتعدد رؤاها وتعاقب أجيالها أو حتى تباين ملامح رجالها ونسائها.. حيث ذلك كله أو بعضه لا يزال قائمًا، فإنّ الإنسان العربي لم يولد بعد، ربما انبثق كجسد محض، يشبه جميع الحيوانات التي تولد وتنمو بيولوجيا، لكنه لم ينبثق سيكولوجيا من رحم الحرية، كشخص فاعل، كروح حرّة، كذات فاعلة، كصوت مسموع، يمتلك القدرة على التغيير ولو بأثر الفراشة.
كأنّ الفلسطينيين ليسوا منا ولسنا منهم وكأنّ أمر غزّة لا يعنينا
يفسّر لنا ذلك، لماذا كان ولا يزال الموقف العربي مما يجرى في غزّة هو الحلقة الأضعف بين كل دول العالم ومناطقه الثقافية المختلفة التي لا ترتبط مع غزه بأية روابط قومية أو دينية، ولا يحركها سوى الدوافع الإنسانية؟. ففي أفريقيا السوداء تجرأت جنوب أفريقيا وحاكمت إسرائيل على النحو الذي نال من صورتها وأضعف كثيرًا سرديتها عن المظلومية.
وفي المقابل لم يحرّك بلد عربي ساكنًا، ولم تلعب الجامعة العربية دورًا، وكأنّ الفلسطينيين ليسوا منا، ولسنا منهم. وفي أمريكا الجنوبية سحبت دول ثلاث على الأقل سفراءها من إسرائيل أو طردت سفراء إسرائيل لديها، فيما ذهبت الرابعة إلى قطع العلاقات كلية معها بعد مباراة دبلوماسية حامية الوطيس أحرجت الكيان الغاصب أمام نفسه والعالم، وهو أمر لم تقم به دولة عربية واحدة، لديها علاقات قديمة أو حديثة مع إسرائيل وكأنّ أمر غزّة لا يعنينا. بل إننا، وبعد زمن طويل كنا نتندر فيه على مجرد الإدانات اللفظية من قبل دولنا للهمجية الإسرائيلية، أصبحنا نفتقد إلى تلك الإدانات إلى درجة الاشتياق.
سلطات لا ترى في العربي أكثر من شيء قابل للاستخدام قادرة على سوقه إلى الموت بلا جرم اقترفه
والأخطر من ذلك أنّ حالة الموت الثقافي هذه لم تتوقف عند نظمنا الحاكمة بل طالت مجتمعاتنا المدنية. لقد أبدت مجتمعات عديدة تعاطفًا كبيرًا وبذلت جهدًا نشيطًا في التضامن مع غزّة المنكوبة، حتى في أكثر الدول تأييدًا لإسرائيل، كأمريكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا. رفع البعض لافتات، وسار البعض الثاني في مظاهرات، وحاصر البعض الثالث محطات قطار، واقتحم البعض الرابع مجالس تشريع، ولاحق البعض الخامس أعضاء تلك المجالس، وأفسد البعض الخامس ندوات ومؤتمرات لمؤيدي إسرائيل. حدث ذلك أحيانًا من اليهود أنفسهم، بل إنّ السيدات الحرائر في بريطانيا قمن بجز شعر رؤوسهن، وهو أمر صعب على النساء، امتعاضًا من مواقف حكوماتهن، وتعاطفًا مع ضحايا العدوان. وفي المقابل، لم تعد الشوارع العربية تحرّك ساكنًا بعد الأيام الأولى للعدوان، فلا تظاهرة كبرى، ولا صوت إدانة مسموع ولا ضغوط على الحكومات من أي نوع.
إنه الخوف من سلطات لا ترى في العربي أكثر من شيء قابل للاستخدام قبل الإلقاء به في سلّة المهملات، مثل عبوة بلاستيكية لمادة غذائية أو مشروب غازي، شيء تستطيع أن تقرّر له دون أن تشغل نفسها بإقناعه، أن تسمي أعداءها وأصدقاءها دون رأيه طالما أنها قادرة على إسكاته، على سوقه إلى الموت بلا جرم اقترفه، متصوّفًا كان أو ليبراليًا، سلفيًا كان أو ملحدًا، فقط لأنه أراد أن يكون حرًا، استمسك بإنسانيته واستعصم بكرامته.
(خاص "عروبة 22")