وجهات نظر

من عبد الناصر إلى السيسي.. 4 "طبعات" لحكم مصر

قبل عشر سنوات وفي ظل ظروف ما بعد ثورة يناير صعد المشير عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم في مصر، وخلال هذا الأسبوع، يؤدي الرئيس المجددة ولايته قبل أربعة أشهر اليمين الدستورية أمام مجلس النواب، ليصبح الحاكم التاسع في جمهورية ما بعد يوليو/تموز 1952، هو الرئيس الثاني بعد حسني مبارك الذي يدشن فترته الرئاسية الثالثة في حكم مصر.

من عبد الناصر إلى السيسي.. 4

من عبد الناصر إلى السيسي، وبينهما السادات ومبارك، أربع "طبعات رئاسية"، قدّم كلٌ منهم نسخته الخاصة للحكم، اختلفت شخصياتهم، وتباينت طبائعهم، وتناقضت مواقفهم، وتفرّقت انحيازاتهم، وصبغت السمات الشخصية لكل واحدٍ منهم وجه مصر خلال فترة حكمه.

تبدت شخصية جمال عبد الناصر خلال 14 سنة حكم فيها مصر كرجل المواجهات، ورئيس التوازنات، لكن كانت المواجهة التي تصل إلى حد العناد - سمته الأبرز -، أصلها نابع من شخصيته التي تجمع بين الشجاعة والعناد، خاصة أمام جرح الكرامة الوطنية أو الإساءة إلى الكرامة الشخصية.

شخصية عبد الناصر انعكست في مواجهته مع "الإخوان"، وجاءت الذروة التي حسمت المواجهة الشاملة معهم إثر محاولة اغتياله في "المنشية"، فاتخذ قراره بكسر شوكتهم التنظيمية، ثم عمل على تصفيتهم حركيًا وفكريًا وسياسيًا، حتى تمكن من تقليص وجودهم، وتحجيم تأثيرهم في الشارع المصري.

قرار "التأميم" هو الذي توَّج عبد الناصر زعيمًا وطنيًا وقوميًا

ظهرت شخصية عبد الناصر بشكل أوضح في تصديه لسياسات الغرب المعادية، والمثال الأبرز هنا هو الكيفية التي تعامل بها مع إجراء بحجم وقوة والآثار المترتبة على قراره "تأميم قناة السويس".

كان التأميم مطروحًا على جدول أعمال الثورة، مرهونًا بالوقت الأمثل لتنفيذه، وجاء سحب الولايات المتحدة الأمريكية لعرض تمويل مشروع السد العالي بطريقة أُريد لها أن تكون مهينة لمصر، ليجدها عبد الناصر فرصة للتصدي لمحاولات الغرب التحكم في سياسات بلاده، ورد اللطمة التي أرادوا تسديدها إلى الاقتصاد المصري، فذهب مباشرة إلى تأميم القناة.

كان "التأميم" هو الرد الأمثل على ما رآه مساسًا بالكرامة الوطنية، وجرحًا للكبرياء الوطني، وهو القرار الذي ترك آثارًا ضخمه على المستويات العالمية والإقليمية وداخل مصر، وتوَّج عبد الناصر زعيمًا وطنيًا، وقوميًا من يومها.

برز أنور السادات في صورة الرجل المتآمر والرئيس الذي يتقن المناورة التي تصل إلى حد المقامرة، وقد شكلت شخصيته تلك ظروفُ نشأته ومحطاتُ مسيرته الحياتية المليئة بالهزائم على المستوى الشخصي، والمفعمة بالكثير من المعاناة التي تركت أثرها على طبائعه وتكوينه النفسي.

نهاية السادات على يد الذين أطلق يدهم وأفسح لهم المجال واسعًا ليقضوا على خصومه

خاض السادات مبكرًا في مغامرات سياسية خطيرة، كانت له اتصالات مع مخابرات أجنبية أثناء الحرب العالمية الثانية، وطُرد من الخدمة بالجيش، وشارك في عملية اغتيال، وسُجن، وتكوّنت لديه عقلية السياسي الواقعي ممزوجة بدهاء المغامر ونفسية المقامر الذي يحتفظ بأوراق اللعب قريبة إلى صدره.

صفاته تلك هي التي تغلبت على خصومه في مايو/ أيار 1971 الذين اغتروا بما في أيديهم من قوة ونفوذ، فانتصر عليهم وزج بهم في غيابات السجون.

وحين انفرد بحكم مصر اعتمد السادات سياسة ضرب خصومه بعضهم ببعض، فاستخدم "الإخوان" بعد أن استقدمهم من "الموات" الذي فرض عليهم، وسمح لهم بإعادة "الجماعة" للحياة، في مهمة التصدي لخصومه من الناصريين والماركسيين.

في هذا المسار، ومن الزاوية نفسها، حاول السادات بعث "الوفد" من جديد، لتنشب مواجهة إضافية بين اليسار المعارض، وبين اليمين العائد.

المفجع أن تأتي نهاية السادات على يد الذين أطلق يدهم، وأفسح لهم المجال واسعًا ليقضوا على خصومه، فانقضوا عليه يوم احتفاله بالذكرى الثامنة لنصر أكتوبر 1973 الإنجاز الذي ظل يفاخر به طوال حياته.

يحوز الرئيس حسني مبارك الإجماع على توصيفه بـ"الرجل الحذر والرئيس البطيء"، علّمته تجربته العملية أنّ البقاء في الظل أسلم، يرجع "البطء" في قراراته إلى شخصية "راكدة" أكثر من كونه يرجع إلى التفسير القائل بأثر "الحذر" الذي تفرضه عليه طبيعة المهنة كطيار مقاتل على قول بعض مؤيديه.

مبارك هو الرئيس الأكثر تأثيرًا بالسلب فيما آلت إليه الأمور بعد ثلاثة عقود في الحكم

حكم مبارك مصر ثلاثين سنة، وهي مدة الحكم الأطول بعد محمد علي باشا الذي حكم 44 سنة، وهو الرئيس الأكثر تأثيرًا بالسلب فيما آلت إليه الأمور بعد ثلاثة عقود في الحكم كانت مرشحة للتمدد لولا ثورة يناير.

امتاز مبارك بقدرته على تأمين نظامه، وترحيل المشاكل، ما ساعده على استمرار حكمه رغم "البطء" الذي حكم فتراته الرئاسية الخمسة، خاصة في الفترتين الأخيرتين، ما تسبب في جمود الأحوال حتى تيبست مفاصل الدولة.

لذلك كان طبيعيًا أن تتبدى "ثورة يناير" في صورة من صورها الكثيرة، كأنها "القاضية" التي أسقطت أزمة طالت فوق صلاحيتها، لـ"سلطة شاخت فوق مقاعدها".

ورابعهم الرئيس السيسي الذي يُقدم نفسه في صورة "رجل الأقدار"، والرئيس صاحب الإنجازات غير المسبوقة، ما يزال يحسد عبد الناصر على الكاريزما، ويتجنب الحديث عن مبارك ويلمزه من بعيد، ويحتفظ بتقديرٍ وولعٍ خاص بالسادات.

يبدو السيسي أقرب إلى السادات ولكن كطبعة مزيدة ومعدلة، عليها تنقيحاته التي تحتفظ بالأصل لكنها تصبغه بسمات شخصية مختلفة، ليس فيها الخبرة السياسية العريضة للسادات، ولا فيها أثر التجربة الحياتية الثرية التي خاض فيها سلفه.

أسوأ ما تردد مع ظهور السيسي محاولة البعض تصويره على أنه عبد الناصر جديد، متناسين أنّ التاريخ لا يعيد نفسه، مغفلين أنّ الأشخاص لن تتكرر، وأنّ التجربة تنبئنا أنه لا حاكم مثل الآخر، وأنّ مصر شهدت نظام حكم واحد بطبعات مختلفة، وسياسات تكاد تكون متناقضة بين سياسات الرئيس الأبرز عبد الناصر، وبين سياسات وانحيازات كل من خلفوه.

السيسي لم يقرأ درس عبد الناصر جيدًا ودرس "يناير 2011" يتلخص عنده في إصرار محموم على عدم السماح بتكرارها

أن يقرن البعض بين الرئيسين عبد الناصر والسيسي فيه ظلم للسيسي قبل أن يكون اجتراءً على عبد الناصر.

البادي حتى اليوم، مع بدء ولايته الثالثة، أنّ السيسي لم يقرأ درس عبد الناصر جيدًا، لم يأخذ من تجربته أيًا من مميزاتها، واقتصر على أسوأ ما فيها، والمحزن أنّ درس "يناير 2011" يتلخص عنده في إصرارٍ محمومٍ على عدم السماح بتكرارها من جديد.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن