صحافة

بايدن الحائر: نصف خطوة للأمام.. نصف خطوة للوراء

عاصم عبد الخالق

المشاركة
بايدن الحائر: نصف خطوة للأمام.. نصف خطوة للوراء

سماح واشنطن بصدور قرار مجلس الأمن الداعي لوقف إطلاق النار في غزة مكتفية بالامتناع عن التصويت تطور شكلي وليس جوهريا في موقفها. صدور القرار ـــ الذي نسفت بالفيتو 3 قرارات مماثلة له من قبل ـــ يمثل نصف خطوة للوراء في اتجاه التراجع عن موقفها غير الأخلاقي بمساندة حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل. وهو في الوقت ذاته نصف خطوة إلى الأمام نحو الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو للحد من تطرفه الهيستيري وسفكه لدماء الأبرياء. في الحالتين وأيا كان اتجاه التحرك الأمريكي فمحصلته صفر، ولن يؤدي لأي تغيير على الأرض أو وقف جرائم إسرائيل التي لم تلزم بالقرار وهو ما كانت واشنطن تعلمه يقينا.

بايدن محبط بالفعل من تعنت نتنياهو وعجرفته. هكذا تفيد التصريحات العلنية والتسريبات المتعمدة التي تصدر عن الإدارة الأمريكية. غير أن إحباطه يظل بلا قيمة في ظل عجزه عن تغيير الأوضاع، وعدم قدرته على استخدام نفوذ أمريكا الكبير لترويض الحليف المشاكس. لكن هل لدى بايدن الشجاعة والرغبة في ممارسة ضغط حقيقي على إسرائيل؟

لن نتطوع أو نتسرع بتقديم إجابة، سنترك المهمة للخبراء الأمريكيين أنفسهم وهم في هذا الشأن ينقسمون إلى فريقين احدهما مقتنع بإمكانية بل ضرورة الضغط على إسرائيل، والآخر يبدي تحفظا في جدوى أي إجراء من هذا النوع، هذا إن حدث بالفعل وهو ما يستبعدونه. سنكتفي بعرض نموذج يعبر عن كل اتجاه من الاتجاهين. الأول لخصته مقالة نشرتها نيويورك تايمز الأسبوع الماضي بعنوان «كيف يمكن لبايدن إجبار إسرائيل على تغيير إستراتيجية الحرب»؟ المقال لكاتبين احدهما متخصص في الشؤون الدبلوماسية والآخر في الأمن القومي، وهما يعتقدان أنه يمكن لأمريكا استخدام نفوذها بقوة طالما أن نتنياهو يتجاهل وجهة نظرها ومصالحها. يوضح مارتن انديك مبعوث السلام الأمريكي السابق أن بايدن ليس أول رئيس أمريكي يضطر للضغط على إسرائيل فقد فعل ذلك أربعة رؤساء سابقين من فورد وحتى بوش الأب. وقد احتجزوا أو جمدوا بعض المساعدات والاتفاقيات أو هددوا بذلك.

تحدد الصحيفة 3 دوائر للعلاقات يمكن استغلالها للضغط على إسرائيل أولاها المساعدات العسكرية الضخمة والتي تبلغ 3,3 مليار دولار سنويا، وقد طلب بايدن من الكونجرس 14 مليارا إضافية بعد بداية الحرب. ومن أكتوبر إلى ديسمبر 2023 زودت أمريكا إسرائيل بنحو 15 ألف قذيفة و57 ألف دانة مدفع. زادت هذه الكمية 15% من أول ديسمبر حتى الآن. وتجاوزت شحنات الأسلحة الأمريكية منذ بداية الحرب أكثر من 100 شحنة. في ظل هذا السخاء يفترض أن يكون لأمريكا كلمة مسموعة في إسرائيل. ومجرد الإبطاء في إرسال الأسلحة والذخيرة، وليس وقفها، سيبعث برسالة غير ودية لقادتها.

الدائرة الأخرى هي «الدرع الدبلوماسية» التي تحمى بها واشنطن حليفتها من الإدانة في مجلس الأمن. والتلويح بالتراجع عنها كما فعلت في القرار الأخير يثير قلق إسرائيل. الدائرة الثالثة هي العقوبات المباشرة وهي مستبعدة بشكلها التقليدي، لكن هناك بدايات توحي بإمكانية اللجوء إلى نوع محدود منها على غرار العقوبات التى فرضتها واشنطن مؤخرا على عدد من المستوطنين لجرائمهم ضد الفلسطينيين بالضفة.

على الجانب الآخر يستبعد الفريق الثاني من المحللين الأمريكيين إمكانية لجوء إدارة بايدن للضغط الجاد على إسرائيل. وحتى لو حدث ذلك بصورة جزئية فلن يؤتي ثماره. أفضل من عبر عن هذا الرأي العالم السياسي المرموق «ستيفن والت» أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد وهو خبير محنك كانت له معركة شهيرة مع أصدقاء إسرائيل بسبب كتابه «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية» الذي وضعه مع زميله جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو. نشر والت مقالا مطولا بمجلة فورين بوليسي يوم 21 مارس الحالي بعنوان «النفوذ الأمريكي على إسرائيل أقل مما تعتقد» وفيه يستبعد توجيه تهديد جاد من بايدن بوقف أو تجميد المساعدات. ويسخر من فكرة أن مكالمة غاضبة منه إلى نتنياهو ستغير سياسته.

قواعد علم السياسة تؤكد ذلك وهي تقول إن نفوذ الدولة الكبيرة المانحة للمساعدات يتضاءل على الدولة الصغيرة المتلقية لها في عدة حالات منها أن تكون الدولة الأصغر قادرة على تعويض المساعدة من مصادر أخرى. وفي حالة إسرائيل ورغم اعتمادها الكامل على أمريكا في التسليح إلا أنها تملك قاعدة تصنيع عسكرية متقدمة. ومع ذلك فإن فرض حظر سلاح أمريكي عليها مستحيل الحدوث.

الحالة الثانية أن تكون القضية المختلف عليها ذات أهمية حيوية للطرف الأصغر أكثر بكثير من المانح. وهنا سيكون مستعدا للتحدي ودفع ثمن موقفه. وبطبيعة الحال فإن الوضع في غزة أولوية لإسرائيل أكثر من أمريكا. كما أن لاستمرار الحرب أهمية خاصة لنتنياهو لأن وقفها دون انتصار حاسم على حماس لن يعني فقط هزيمة إسرائيل لكن أيضا نهاية تاريخه السياسي وربما الزج به في السجن على ضوء قضية الفساد المرفوعة ضده.

الحالة الثالثة لتضاؤل فرص نجاح الضغوط هي أن تكون الدولة المانحة غير قادرة على تقليص مساعداتها لأسباب محلية. يتوفر هذا العنصر بوضوح في العلاقات مع إسرائيل. وكلمة السر هنا هي اللوبي الإسرائيلي الذي أحبط كل المحاولات السابقة للضغط عليها. التوقيت أيضا مسألة حاسمة فلا يجرؤ بايدن على المخاطرة بخطوة من هذا النوع في عام الانتخابات.

ومع ذلك فليس من مصلحته كما يقول الكاتب أن يبدو في صورة العاجز أمام العالم. بل إن موقفه أصبح مثيرا للسخرية فهو يلقي بالطعام على المدنيين في غزة ويقدم القذائف لإسرائيل لإلقائها عليهم قبل وبعد الأكل!. كما أنه من الصعب عليه الدفاع عن دولة متهمة بالإبادة الجماعية وممارسة الفصل العنصري. أمريكا من خلال دعمها العسكري والسياسي شريك في تلك الجرائم. ومع ذلك يستبعد الكاتب نجاح إدارة بايدن في تغيير توجهها الفاشل الحالي إلى سياسة أكثر فاعلية.

أخيرا يرى أنه ليس من المهم التركيز على مناقشة ما إذا كان الضغط على إسرائيل مفيدا أم لا، فالسؤال الأهم والجوهري هو هل من مصلحة واشنطن على الأقل من الناحية الأخلاقية التورط والمشاركة في مأساة إنسانية بالغة السوء والضخامة؟ فإذا كانت عاجزة عن إيقافها فعلى الأقل يجب ألا تشارك في استمرارها وتفاقمها.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن