الإصدار هذا للتذكير، أصله أطروحة دكتوراه في الحضارة نوقشت بكلّية الآداب بصفاقس (تونس) سنة سبع عشرة وألفين (2017) تحت إشراف علي الصالح مولى الذي يشتغل على دراسة البُنى العميقة العربية والغربية وتأثيراتها التاريخية والمستقبلية بالعالم العربي مثل مسألة الزعامة في الحقل السياسي العربي ومسألتي الاستراتيجيا والاستشراف من خلال مدوّنات تأسيسية في هذه المسائل.
الهيمنة لا يمكن أن تتمّ بالقوة الصلبة فقط، وإنّما كذلك بالقوة الناعمة في مقدّمتها الثقافة
تهمّ الإشكالية الأساسية التي يُعالجها الكتاب كيفية فهم التطوّرات الجيواستراتيجية والسوسيو-ثقافية التي يشهدها العالم العربي راهنًا: أهيّ حقًّا متغيّرات ظرفية اعتباطية أم متغيّرات تحكّم فيها ووجّهها عقل استراتيجي كبير؟ يمكن تلخيص تلك القضية في سؤال محوري يتمثّل في: إلى أيّ حدّ يمكن التسليم بنظرية المؤامرة في ما حدث ويحدث للعرب من انكسارات ونكسات؟ وقد انبثق عن ذلك السؤال المحوري أسئلة متّصلة بطبيعة الهيمنة الأمريكية ونوعية الآليات المستخدمة ومدى نجاح استراتيجيتها الكبرى في تحقيق أهدافها المعلنة والخفية وخلفيات الربيع العربي وحقائقه المغيّبة.
انطلقت المؤّلفة في عملها من فكرة أنّ الهيمنة لا يمكن أن تتمّ بالقوة الصلبة فقط، وإنّما كذلك بالقوة الناعمة في مقدّمتها الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي الذي يجعلها آلية توجيه وتحكّم وضبط على حدّ تعبير كليفورت غيرتز. وهو ما يعني اضطلاع البنى العميقة الممثّلة في النخبة والخبراء ومراكز الفكر والاستراتيجيا والإعلام بوظيفة رسم السياسات وفق استراتيجيات متنوّعة قائمة على التكامل والتعاضد في ما بينها. لكن لا يمكن لأية استراتيجيا، مهما كان نوعها، أن تنجح دون وجود سياقات مساعدة أو مُهيّئة لها.
انطلقت الباحثة من أربع فرضيات بيّنة: فرضية أولى تذهب إلى وجود شروط تجعل من الهيمنة ممكنة في العالم العربي بمعنى توفّر قابلية للهيمنة أسوة بالقابلية للاستعمار؛ ثم فرضية ثانية تجمع بين المهيمن والمهيمَن عليه في نطاق جدلية القوة والضعف؛ فرضية ثالثة تشي بدور أطاريح محورية في استراتيجيات الهيمنة الأمريكية على العالم العربي مثل أطروحتي "نهاية التاريخ" لفوكوياما و"صدام الحضارات" لهنتنغتون، فضلًا عن أطروحات متّصلة بالإمبرياليين الجدد مثل أطروحة نيال فرغُسون حول الإمبراطورية الأمريكية؛ وأخيرًا، الفرضية الرابعة وتهمّ مدّى صحة الفصل بين "مدرّعات العسكر" و"مدرّعات الفكر" على حدّ تعبير محمد حسنين هيكل حسب ما أشارت إليه المؤلّفة.
قسّمت الفرجاني عملها إلى ثمانية فصول موزّعة على أربعة أقسام كبرى: "الهيمنة الأمريكية واستراتيجياتها بحث في السياقات والمآلات"؛ "الولايات المتحدة الامريكية ومجالاتها الحيوية بعد الحرب الباردة؛ "حرب الخليج الثانية واستراتيجية الهيمنة بحث في المسارات والأدوات"؛ "11 سبتمبر بحث في الإرهاب".
بخصوص قراءة المؤلفة لمفهوم الدعاية، فقد ربطته باستراتيجية الرئيس جورج بوش الأب خلال حرب الخليج، مميّزة بين ثلاثة أصناف من الدعاية: الدعاية الحقيقية وتسمى أيضًا الدعاية البيضاء أوّلًا، والدعاية السوداء المتعلقة بالأكاذيب والخداع وإخفاء المعلومة ثانيًا، والدعاية الرمادية وهي دعاية حقيقية جزئيًا ثالثًا (ص: 301).
وأخيراً، مفهوم "حرب الأفكار"، حيث حدّدت الباحثة دلالتها بالعودة إلى وثيقة الأمن القومي لسنة 2002 فنقلت منها أنّ "الحرب على الإرهاب ليست صدام حضارات: إنّها تكشف الصدام داخل حضارة: معركة من أجل مستقبل العالم المسلم، صراع أفكار، وهذه منطقة على أمريكا أن تتفوّق فيها" (ص: 352). ويبدو في هذا التحديد صدى تأثير كتابات برنارد لويس وتلميذه هنتنغتون واضحًا. وقد استخدمت إدارة بوش عبارتي "حرب الأفكار" و"صراع الأفكار". إذ اعتمدت تلك الإدارة في هذه النوعية من الحرب: حرب الأفكار استراتيجيتين: استراتيجية أولى تتبنّاها وزارة الخارجية وهي استراتيجيا دفاعية عن صورة أمريكا بالخارج، والثانية استراتيجيا هجومية تديرها وزارة الدفاع. وقد اعتمدت الولايات المتحدة مجموعة من الآليات ضمن ما سماه مايكل والر بـ"الاتصال الاستراتيجي" المتمثّل في الديبلوماسية العامة والشؤون العامة والعمليات المعلوماتية والديبلوماسية الثقافية (ص: 359).
من بين أهم القضايا الحضارية، يمكن التوقف عند المحاور التالية:
ــ أهميّة المأسسة في صناعة القوة الأمريكية وهيمنتها. نبّهت المؤلّفة في مختلف ثنايا عملها إلى أنّ مشروع الهيمنة الأمريكية قام على المأسسة ليس فقط بالسيطرة على مجموعة من المؤسّسات العسكرية والسياسية والديبلوماسية مثل حلف "الناتو" والأمم المتحدة، بل لوجود قيادة مؤسّسية منذ الحرب الباردة تقوم على تبادل الخبرات بين مراكز الفكر ومراكز النفوذ المالي والعسكري. وهو ما خلق تكاملًا بين مصادر القوة المادية والقوة الرمزية أو ما يًسمى "القوة الناعمة" من مُثُل عليا، وثقافة وأيديولوجيا وهيبة ديبلوماسية وتكنولوجيا متطوّرة من ناحية أخرى (ص: 153).
ــ طبيعة الاستراتيجيا في حرب الخليج: إنّ الاستراتيجيا المعتمدة في حرب الخليج استراتيجيًا إنهاك واستنزاف، بحكم تنوّع أدواتها الديبلوماسية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والعسكرية. وقد كانت استراتيجيًا متّسمة بالتغيّر والتجدّد. فقد عملت على ضمّ قوات عربية إسلامية من مصر والمغرب وغيرهما لرفع الحرج عن السعودية ونيل قبول نسبي بانتصاب القوات الأمريكية على الأراضي السعودية رغم أنّ تشريك قوات عربية إسلامية لم يكن مبرمجًا منذ البداية. وهو ما يعني أنّ الاستراتيجيا الأمريكية تتّسم بالديناميكية والفعالية. ولم تكن حرب الخليج في حقيقتها سوى مشروعًا أمريكيًا لا يمكن فهمه خارج سياق الهيمنة الأمريكية لخلافة الهيمنة البريطانية.
ــ ارتجالية السياسة العربية: أقامت المؤلّفة مقارنة ضمنية بين السياستين الأمريكية والعربية من خلال الحالة العراقية زمن صدام حسين فخلصّت إلى أنّه بقدر ما احتكمت السياسة الأمريكية إلى استراتيجيات متنوّعة متكاملة في ما بينها، فإنّ السياسة العربية كانت قائمة على الارتجال. ولخّصت كلّ ذلك في مفارقة سياسة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الذي على الرغم من إدراكه بانتهاج الولايات المتحدة والغرب عمومًا لسياسات جديدة في إنهاك العراق اقتصاديًا من خلال تخفيض أسعار البترول والتضييق عليه، فإنّه وقع في فخ اجتياح قواته للكويت بصورة لم يستطع فيها بعدها إيجاد بدائل تنقذ العراق من المكيدة التي نصبت له.
كتاب "العرب في استراتيجيا الهيمنة الأمريكية" عمل مرجعي لفهم وظائف البُنى العميقة بمراكز صنع القرار الدولي وتأثيراتها في العالم العربي الذي لم يستطع إلى يومنا هذا التحرّر من "براديغم" الطاعة والارتجال.
(خاص "عروبة 22")