لا تبدو صورة العمالة في 2023 مشرقة، إلا أنّ ذلك متوقع إلى حدّ كبير لأنّ الاقتصاد العربي لم يكن مزدهرًا أيضًا . وقد بلغ معدل البطالة في البلدان العربية 9.8%، مقابل متوسط عالمي يبلغ 5.6%، مما يعني أن ثمّة 17.5 مليون عامل عربي يبحثون عن وظيفة من دون أن يجدوها.
تباين الحظوظ في الاقتصاد العربي أدى إلى تجزئة أسواق العمل العربية
يرتبط ارتفاع معدلات البطالة في العالم العربي بعدة عوامل متقلّبة، كأسعار النفط، وعدم الاستقرار السياسي، والأزمات الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، فقد غاب التحوّل الهيكلي الاقتصادي المناسب في العالم العربي، حيث تم استيعاب العمالة التي وفّرها القطاع الزراعي في الغالب في قطاع الخدمات، مع نمو محدود شهده قطاعا الصناعة والتكنولوجيا، بسبب غياب قطاع خاص راسخ وضعف مبادرات التنويع.
يحمل هذا الوضع في موضوع العمالة ثلاثة آثار خطيرة:
أولًا، نظرًا لأنّ سوق العمل لم يكن حيويًا وجذابًا، فقد تأخرت المشاركة في العمل، حيث بلغت نسبة المشاركة في العمالة لدى النساء 19.8% فقط في حين بلغت نسبة المشاركة في العمالة لدى الذكور 74%. والنتيجة المحزنة لهذه المعدلات المنخفضة والمتباينة هي أنّ النساء يحصلن على أجور أقل بشكل كبير، حيث يحصلن على حوالى 13٪ من إجمالي قيمة أجور الرجال! ليس هذا فحسب، بل تأثرت معدلات القوى العاملة من فئة الشباب أيضًا حيث بلغت 19.3% فقط، حيث أنّ غالبية الشباب، لا سيما النساء منهم، لا يعملون أو لا يتلقون أي تدريب أو تعليم.
ثانيًا، ومع ضعف الاقتصاد وافتقاره إلى الإمكانات الديناميكية، هناك ندرة في الوظائف عالية الجودة، وهو ما يفسّر انخفاض الناتج المحلي الإجمالي (الدخل أو الناتج) خارج دول مجلس التعاون الخليجي لكل موظف والذي يبلغ 27800 دولار سنويًا مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 42270 دولارًا، مع الإشارة إلى أنّ الناتج المحلي الإجمالي لكل موظف في دول مجلس التعاون الخليجي يصل إلى 109,100 دولار! وما يساهم في استمرار ندرة الوظائف ذات الأجور الجيدة هو عدم تطابق المهارات المثير للقلق، مما يلقي بظلال من الشك على جودة وأهمية برامج التعليم وتنمية المهارات في المنطقة. وبالإضافة إلى ذلك، يزداد الاقتصاد غير الرسمي رسوخًا، حيث يشارك فيه أكثر من 50% من القوى العاملة، ويعيش ما يقارب 13% من القوى العاملة فيه على حافة الفقر.
ثالثًا، أدى تباين الحظوظ في الاقتصاد العربي بين دول مجلس التعاون الخليجي والدول غير الخليجية إلى تجزئة أسواق العمل العربية. وقد أدى ذلك أيضًا إلى التجزئة داخل كل سوق، بين القطاع الخاص/العام، والوطني/غير الوطني في دول مجلس التعاون الخليجي، وبين القطاع الرسمي/غير الرسمي، والمقيمين/المهاجرين في دول غير دول مجلس التعاون الخليجي. ولذلك، تستضيف دول مجلس التعاون حوالى 24 مليون عامل مهاجر، ما يمثّل حوالى 15% من القوى العاملة المهاجرة على مستوى العالم. في حين تعاني الدول غير الأعضاء في مجلس التعاون من هجرة الأدمغة، إذ هاجر حوالى 32.8 مليون شخص، مع بقاء 44 في المائة منهم فقط في المنطقة، وحيث تستضيف دول مجلس التعاون حوالى 80 في المائة منهم. وتواجه الدول غير الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي أيضًا تداعيات أزمة ملايين المهاجرين القسريين والنازحين (أغلبهم من سوريا إلى دول مثل لبنان والأردن)، وهو ما يفرض ضغوطًا هائلة على أسواق العمل والتوظيف الفقيرة والمختلّة أصلًا.
ما الحل؟ من الواضح أنّ هناك حاجة إلى خلق المزيد من فرص العمل والمزيد من الوظائف ذات الجودة في الدول غير الخليجية، إضافة إلى الوظائف ذات الجودة في القطاع الخاص في دول مجلس التعاون الخليجي. وإذا التزمنا بالتوصيات للدول غير الأعضاء في مجلس التعاون لأنها الأكثر إلحاحًا، فإننا نقترح إطار التوصيات التالي والمتكوّن من مسارين:
يتمثّل المسار الأول في التركيز على زيادة فرص العمل. ولتحقيق ذلك، لا بد من الحفاظ على الاستقرار السياسي المطرد وتنفيذ السياسات الداعمة للنمو. ومن المفترض أن يكون تأثير هذا المسار إيجابيًا للغاية، حيث أنّ مرونة العمالة بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في الدول غير الخليجية تبلغ 1.3: ما يعني أنه إذا زاد الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1% فستزيد نسبة العمالة بنسبة 1.3%.
يجب أن تهدف السياسات إلى تحسين المهارات والتعليم واستهداف قطاعات صناعية/تكنولوجية محددة
أما المسار الثاني فيتمثل في التركيز على تعزيز الوظائف ذات النوعية الجيدة. ولتحقيق ذلك، يجب أن ينجح المسار الأول، ومن ثم يجب أن تهدف السياسات إلى تحسين المهارات والتعليم واستهداف قطاعات صناعية/تكنولوجية محددة . وبطبيعة الحال، إن تحقيق المسار الثاني هو الأصعب، إلا أنّ هذا الأمر هو ما يميّز الاقتصاد الجيّد عن الاقتصاد الهش، وهو ما يميّز العمل "الجيد" عن العمل "الحسن".
والأهم من ذلك، أنّ الشروط الكافية التي تشمل كِلا المسارين هي القدرات المؤسَسية، والحكم الرشيد، وروح الانفتاح، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . ومن دون تحقيق هذه الشروط، لن ينجح المساران، وستظل أسواق العمل العربية متخلّفة، فضلاً عن الاقتصادات العربية.
(خاص "عروبة 22")