ورغم تحذيرات السلطة للتجار بمناسبة بدء الفترة الرئاسية الثالثة للرئيس، بضرورة تخفيض أسعار السلع بعد أن كانت قد ارتفعت لتتوافق مع سعر الدولار فوق 65 جنيهًا، إلا أنّ الاستجابة متفاوتة من قطاع لآخر.
الاقتصاد المصري اتجه بشكل حثيث نحو "الدولرة" ووقع في فخها
كما أنّ الأسعار تبقى في كل الأحوال بالغة الارتفاع مقارنة بما كان عليه الحال في خريف عام 2022. كما أنّ السلطة نفسها رفعت أسعار الوقود مؤخرًا رغم علمها أنّ ذلك يؤدي تلقائيًا إلى ارتفاع أسعار غالبية السلع والخدمات.
ونظرًا لتوالي اضطراب ثم انخفاض العملة المصرية وتذبذبها منذ عام 2016 وحتى الآن، فإنّ الاقتصاد المصري اتجه بشكل حثيث نحو "الدولرة"، ووقع في فخها بالفعل، حيث بات منطق الحفاظ على المصلحة الخاصة يدفع نحو احتساب القيمة والمدفوعات المؤجلة بالدولار وما يعادله، نظرًا للمخاوف من انهيار قيمة العملة المصرية وقدرتها الشرائية لو تم التقييم بها على ضوء خبرات السنوات منذ عام 2016 وحتى الآن.
كما أنّ ذلك التدهور والاضطراب في سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري، أدى إلى انخفاض كبير في تحويلات العاملين بالخارج من 31,9 مليار دولار في العام المالي 2021/2022، إلى 22,1 مليار دولار عام 2022/2023، بنسبة انخفاض بلغت نحو 30,7%، حيث فضّل البعض منهم الاحتفاظ بمدخراته الدولارية في الخارج، خاصة في ظل تزايد المخاوف الحقيقية أو الوهمية، من تقييد التصرّف في الحسابات بالدولار أو العملات الحرّة في مصر. ولسنا في حاجة لتكرار ما تم رصده في مقالات سابقة حول الإفراط غير المبرر في الإنفاق على البنية الأساسية، وحول أسباب العجز التجاري، وعجز ميزان الحساب الجاري، وما نتج عن ذلك من إفراط في الاستدانة، وتخفيضات كبرى لسعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار، وغيرها من الآثار الاقتصادية والسياسية بكل تبعاتها على مستويات معيشة البشر والاستقلال الاقتصادي.
الموجة التضخمية وتدهور مستويات المعيشة وزيادة الفقر
يشكل ارتفاع أسعار المستهلكين أو الموجة التضخمية الكبيرة الناتجة عن اضطراب وتدهور الجنيه المصري مقابل الدولار والعملات الحرة الرئيسية، العنوان الأبرز لمعاناة المواطنين. وبديهي أنّ ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري، يؤدي إلى ارتفاع أسعار كل السلع المستوردة بنسبة ارتفاع الدولار نفسها مقابل الجنيه. كما ترتفع أسعار كل السلع المحلية التي يدخل فيها أي مكوّن مستورد، ويتبعها باقي السلع والخدمات التي ارتفعت تكاليف إنتاجها على ضوء التضخم العام، فضلًا عن فوضى التسعير في الأسواق بلا ضبط أو رقابة، حيث أنّ قانون وجهاز حماية المستهلك معنيان بالمواصفات وليس بعدالة الأسعار. ولأنّ الواردات من السلع والخدمات تعادل نحو ربع الناتج المحلي الإجمالي، فإنّ ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه بنسبة 200% منذ خريف عام 2022، يعني زيادة مناظرة في أسعار السلع والخدمات المستوردة أولًا، ثم باقي السلع وفقًا للآلية المذكورة آنفًا. وكان طبيعيًا في تلك الحالة أن تكون الأرقام الرسمية لمعدلات التضخم الشهرية بالمقارنة مع الشهر المناظر قبل عام تدور بين 35%، 40%، وهي في النهاية أقل كثيرًا من معدلات ارتفاع أسعار المستهلكين في الواقع المُعاش.
وقد أدى ذلك إلى تدهور الدخول الحقيقية أي قدرة الدخول النقدية على شراء السلع والخدمات، وبخاصة لأصحاب الدخول شبه الثابتة من أرباب المعاشات والعاملين بأجر. ونتيجة قوة الموجة التضخمية فإنّ الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى انحدرت فعليا لمصاف الفقراء وفقًا لخط الفقر المعتمد دوليًا وحتى محليًا (خط الفقر المدقع 2,15 دولارًا للفرد يوميًا، وخط الفقر لدى دول الدخل المتوسط المنخفض ومصر واحدة منها يبلغ 3,65 دولارًا للفرد يوميًا، وخط الفقر لدى دول الدخل المتوسط المرتفع يبلغ 6,85 دولارًا للفرد يوميًا وفقًا لتعادل القوى الشرائية وذلك بناء على معايير البنك الدولي).
رفع الحد الأدنى للأجر يحتاج لإجراءات تكميلية وإلا تحوّل لأداة اضطراب جديدة في الاقتصاد
وقد ارتفع معدل الفقر أو نسبة الفقراء من إجمالي عدد السكان في مصر من 25,2% عام 2010/2011، إلى 27,8% عام 2015. وارتفع المعدل بعد ذلك بقوة ليبلغ نحو 32,5% من عدد السكان في العام 2017/2018 بسبب السياسات الاقتصادية-الاجتماعية المتحيّزة ضد الطبقة الوسطى والفقراء. وبعد الانخفاض الكبير في سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار منذ خريف عام 2022 وحتى الآن، تزايد وربما تضاعف معدّل الفقر في ظل جموح التضخم وتآكل القدرة الشرائية للدخول شبه الثابتة أي الأجور والمعاشات.
رفع الأجور بدون إجراءات تكميلية يعني المزيد من التضخم والفقر
إزاء ارتفاعات الأسعار التي أدت لتآكل القيمة الحقيقية للدخول الثابتة وشبه الثابتة للعاملين بأجر وأرباب المعاشات، قامت الدولة برفع الحد الأدنى للأجور إلى 6 آلاف جنيه. وهذا الرفع للحد الأدنى للأجر يطبّق على العاملين في الدولة، حيث تتيح القوانين والقرارات الوزارية للقطاع الخاص إمكانية التهرب من التطبيق إذا أراد. وحتى القطاع العام لم يكن القرار يشمله، مما أدى إلى احتجاج عمال غزل المحلة، وكالعادة تعاملت الدولة بشكل أمني وقمعي في البداية، ثم تفاوضت معهم حول مطالبهم المشروعة.
ورغم أنّ رفع الحد الأدنى للأجر قد تأخر كثيرًا في ظل الارتفاعات الجامحة لأسعار السلع والخدمات منذ خريف عام 2022، إلا أنه يحتاج لإجراءات تكميلية، وإلا تحوّل لأداة اضطراب جديدة في الاقتصاد. وأول الإجراءات التكميلية هو ضبط الأسعار، حتى لا يحدث سباق بين زيادة الأجور وارتفاع الأسعار. وهذا الضبط لا يمكن تحقيقه بإجراءات بوليسية، بل بخلق التوازن بين العرض والطلب، من خلال تحريك بنود الإنفاق العام لتخفيض الإنفاق على بعض البنود، بما يكفي لتمويل زيادة الأجور والمعاشات للعاملين بالدولة، دون زيادة في الإنفاق العام الكلي. والبنود التي يمكن تخفيضها بدون أي تبعات هي إجراء تخفيض جوهري أو حتى الإلغاء الكلي لمناصب المستشارين، التي يشغلها من تجاوزوا سن التقاعد، وبخاصة خريجي الأجهزة الأمنية والعسكرية الذين تم الزج بهم إلى الأجهزة الحكومية العامة والمحلية والقطاع العام. وتقليص الإنفاق على بعض المجالات الأخرى، مثل بعض مشروعات الطرق والكباري والمونوريل، وبالذات تلك التي لا توجد حاجة ماسة لها في ظروف بلد مثل مصر. كما ينبغي تطوير مهام جهاز حماية المستهلك لتشمل الحماية من المبالغة في الأسعار، ووضع سقف لمعدل الربح على السلع المستوردة بعد إضافة التكاليف الفعلية للنقل والتخزين بلا مبالغة. وذلك التطوير سيتطلب تعديل القانون الخاص بالجهاز واللائحة التنفيذية له.
وينبغي التشديد على المنع القطعي لزيادة الإصدار النقدي لتمويل زيادة الحد الأدنى للأجور والمعاشات لأنّ تلك الزيادة ستتحول فورًا إلى قوة تضخمية عبر زيادة في الطلب لا يقابلها زيادة مماثلة في المعروض من السلع والخدمات بما يؤدي إلى زيادة كبيرة في الأسعار ومعدل التضخم وما يترتب على ذلك من تآكل الدخول الحقيقة، بما يفرض الحاجة لزيادة أخرى في الأجور والمعاشات في دورة جهنمية لا تنتهي.
أما ضبط سعر الصرف للسيطرة على التضخم القادم عبر الواردات عندما يرتفع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه، فإنه لم يعد ممكنًا بعد تحرير سعر الصرف كليًا، وبالتالي سيظل مصدرًا للاضطراب النقدي والتضخم المستورد المرتبط به، خاصة وأنّ التزامات مصر الدولارية نحو الخارج لسداد أقساط وفوائد الديون، وتغطية عجز ميزان الحساب الجاري، وتحويلات أرباح الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة للخارج، تتجاوز ما توفر لمصر من حصيلة دولارية من بيع أرض الأمّة في رأس الحكمة ومن القروض الجديدة.
التركيز المطلوب على الصناعات التحويلية هو البديل الأكثر فعالية للاستثمار في العقارات
أما الإجراء الأهم في كل الآجال القصيرة والمتوسطة والطويلة، فهو إجراء تعديل جوهري على التوجهات الاستثمارية، والتركيز بصورة أساسية على الاستثمارات الإنتاجية، التي تلبي الطلب المحلي وتزيد المعروض المحلي من السلع والخدمات وتنتج بدائل للواردات، بدلًا من التركيز غير المنطقي الذي ضرب استقرار الاقتصاد المصري وفك تماسكه، والمتمثل في تكثيف الاستثمار في البنية الأساسية ومنها ما هو غير ضروري، فضلًا عما تم إنفاقه بلا مبرر على القصور الرئاسية والمباني الحكومية في العلمين والعاصمة الإدارية، ولدينا تخمة منها لا توجد حتى لدى قوى اقتصادية عظمى مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى. كما أنّ التركيز المطلوب على الصناعات التحويلية وضمنها الصناعات الزراعية والعالية التقنية، هو البديل الأكثر فعالية للاستثمار في العقارات التي يقتنيها البعض لاختزان القيمة وليس للاستعمال، والتي تحرم الاقتصاد من توظيف تلك القيمة في تمويل استثمارات منتجة وفعالة في الصناعة التحويلية والزراعة والخدمات الإنتاجية.
زيادة المعاشات هزيلة واستمرار للظلم الفادح
قررت السلطة رفع المعاشات بنسبة 15% وهي نسبة هزيلة وحلقة جديدة في سلسلة الظلم الفادح الذي يتعرض له أرباب المعاشات، لأنه لا يقدّم أي حل لمشكلة الانخفاض الكبير لمعاشاتهم الحقيقية أي قدرتها الشرائية في ظل تضخم تشير أرقامه الرسمية الشهرية على أنه يتراوح بين 35% و 40%. ولو قدمت الدولة أسعار فائدة عادلة على أموال التأمينات التي اقترضتها هي وبنك الاستثمار القومي من صناديق التأمينات، توازي الفائدة على أذون الخزانة، فإنّ ذلك سيوفر أموالًا يمكنها ضمان معاشات عادلة من حقوقهم وليس من عطايا الدولة.
وكنموذج فعلي على المستوى المأساوي للمعاشات في مصر، فإنّ معاش رئيس مجلس إدارة مؤسسة كبرى من مؤسسات الدولة يبلغ نحو 4500 جنيه شهريًا تعادل أقل من 100 دولار بالسعر الرسمي، بعد أكثر من 4 أعوام على المعاش وبعد 36 عامًا من العمل والتأمينات المدفوعة.. ويا له من معاش ويا لها من عدالة!
(خاص "عروبة 22")