اقتصاد ومال

التكامل الاقتصادي العربي.. أين الخلل؟

العودة للحديث عن موضوع التكامل الاقتصادي العربي ليس ضربًا من ضُروب الترف الفكري أو الاجتهاد الأكاديمي المُكرّر، بقدر ما هو ضرورة تُمليها التطورات السياسية والاقتصادية الراهنة، المرتبطة بالسياق الدولي المضطرب والتنافس الشرس بين مختلف القوى والتكتلات الاقتصادية الكبرى، الساعية إلى تَسَيُّدِ المشهد السياسي والاقتصادي والإمساك بدفة العالم.

التكامل الاقتصادي العربي.. أين الخلل؟

هذا المشهد الذي تتصارع فيه دول قوية كالصين والولايات المتحدة الأمريكية، وتكتلات كبرى كالاتحاد الأوروبي ومجموعة "البريكس"، لا يفسح إلّا مجالًا هامشيًا وغير مؤثر للدول العربية، وهي دولٌ كان بإمكانها إلى عهد قريب، خلق تكتّل اقتصادي قوي ومؤثر، حتمًا كان سيشكل اليوم طوق نجاة على مختلف الأصعدة.

منذ إحداث جامعة الدول العربية سنة 1945، ظلّ السعي لتحقيق الاندماج السياسي والتكامل الاقتصادي بين دول وشعوب المنطقة قائمًا طيلة عقود طويلة، دون أن يُسفر عن تأسيس تكتل اقتصادي قوي إسوة بعدد من التكتلات القارية والإقليمية التي جاءت متأخرة عن التوجهات العربية، وهي تكتلات امتلكت مقومات النجاح التي لم يستطع العرب تملكها وتوظيفها من أجل بلوغ غايتهم، وهو ما يُحيلنا على عدد من الأسئلة المرتبطة بمكامن الخلل وأسباب فشل العرب في تحقيق هدفهم.

غياب الرؤية المشتركة والإرادة لدى معظم الدول العربية مرده إلى ضعف الثقة البينية والتنافس على الريادة والزعامة

لقد أثمر السعي العربي على مدى سبعة عقود من العمل إنشاء أزيد من عشرين هيئة ومنظمة اقتصادية عربية، أبرزها، مجلس الوحدة الاقتصادية العربية وصندوق النقد العربي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، كما أسفر عن توقيع عدد كبير من الاتفاقيات الجمركية والتجارية والاستثمارية الرامية إلى خلق منطقة عربية كبرى للتبادل الحر وتقليص الحواجز الجمركية وتشجيع الاستثمارات البينية، وصولًا إلى إنشاء سوق عربية مشتركة، وهو ما وفر حينها أرضية قانونية ومؤسساتية كان بالإمكان توظيفها لتسريع الاندماج والتكامل، واستثمار أمثل للمقومات الجغرافية والاقتصادية والبشرية للمنطقة.

لقد اصطدمت كل هذه الجهود المبذولة بصخرة غياب الرؤية المشتركة والإرادة لدى معظم الدول العربية، وهو غياب مرده إلى ضعف الثقة البينية الناجم عن سنوات من الصراع والتنافس بين عدد من الدول العربية على الريادة والزعامة، وهو صراعٌ بلغ في مراحل عدة حدود المواجهة العسكرية والسعي المتبادل لإسقاط الأنظمة وإشاعة الاضطرابات الاجتماعية؛

إلى جانب ذلك، تجدر الإشارة إلى عدم استحضار مسألة تفاوت درجات النمو بين الدول العربية، وغياب أجهزة التنفيذ والتقييم والتتبع وضعف البنى التحتية الصناعية وبنى الربط الطرقي والمينائي والجوي، وهي معيقات أدخلت المنطقة العربية في حالة جمود اقتصادي وسياسي، وجعلت التكامل الاقتصادي العربي مجرّد أمنيات يتم ترديدها عند انعقاد كل قمة عربية، دون أن تكون هناك نية حقيقية لتنزيلها على أرض الواقع.

رغبة بعض الدول العربية في تجاوز وضع الجمود الاقتصادي والسياسي، كان سببًا وراء سعيها إلى خلق تكتلات اقتصادية إقليمية، وِفق مقاربة تراعي الخصوصية الجغرافية والسياسية والاجتماعية لكل منطقة.

في هذا الصدد، تمّ إنشاء مجلس التعاون الخليجي واتحاد المغرب العربي ومجلس التعاون العربي، رغبةً في تدارك الزمن التنموي المهدور وإحياء تطلعات الوحدة والتكامل العربيين، إلّا أنّ هذا السعي اصطدم مرّة أخرى بالمعيقات نفسها التي أدت إلى إفشال كل توجهات التكامل الاقتصادي السابقة، وهو ما أسهم في إفشال تجربة اتحاد المغرب العربي بعد تفاقم الخلافات السياسية بين المغرب والجزائر، في حين أدت الازمة الخليجية الأخيرة وتعاقب الأزمات الاقتصادية إلى إبعاد مجلس التعاون الخليجي عن تحقيق أي اندماج اقتصادي حقيقي بين دوله.

لقد دفع هذا الوضع مرّة أخرى عددًا من الدول العربية إلى البحث عن بدائل عبر ترجيح كفة الخيارات المنفردة، أو السعي إلى الانضمام إلى تكتلات قائمة كالاتحاد الأوروبي و"البريكس" و"سيداو" أو خلق تكتلات اقتصادية قارية، كسعي المغرب لخلق تكتل اقتصادي أطلسي يضم عددًا من الدول الأفريقية، وهي المساعي التي لم تحمل إلى حدود الساعة إجابات حقيقية للتطلعات التنموية لهذه الدول، بقدر ما أسهمت في تشتت الجهود وهدر الإمكانيات وإضاعة الزمن التنموي، وهو ما انعكس سلبًا على مؤشرات التنمية والأداء الاقتصادي للدول العربية، التي لا زالت تتذيّل معظم التصنيفات الدولية.

حتمية التكامل الاقتصادي العربي لخلق التنمية ومواجهة التحديات

لقد آن الأوان أن تعي الدول العربية حقيقة أنّه لا يمكن تحقيق مستويات التنمية المنشودة ولا مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والمناخية الراهنة، من خلال توجهات منفردة أو عبر العمل من داخل تكتلات هجينة لا تراعي خصوصية البلد والمنطقة، وهو وعي إن استُحضِر، سيقود لا محالة إلى معاودة التفكير مرّة أخرى في توظيف آليات التكامل الاقتصادي العربي لخلق التنمية ومواجهة التحديات، وهي عودة تستدعي اعتماد رؤية واضحة وإرادة حقيقية وتوافقات تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعوب العربية وحقها في مستقبل أفضل، بعيدًا عن تطلعات الريادة وأوهام الزعامة.

وهذا سعيٌ يتطلب أيضًا تجاوز آليات العمل القديمة عبر تحديث الهياكل المؤسساتية وتحيين مختلف النصوص القانونية كي تستجيب للتحوّلات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية الراهنة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن