بصمات

الفكر العربي بين التوفيق والتلفيق

كان المفترض أن يفضي الموقف التوفيقي في الفكر العربي إلى تحديث المجتمعات العربية بعد كل ما استهلكه من مشروعات فكرية نهض بها مفكرون كبار من طراز محمد عابد الجابري، ومحمد أركون وعبدالله العروي، وحسن حنفي ونصر أبو زيد وعبد الإله بلقزيز ونصيف نصار وجابر عصفور وجابر الأنصاري وغيرهم.

الفكر العربي بين التوفيق والتلفيق

غير أنّ ذلك لم يحدث، بل إنّ النزعة التوفيقية قد انحرفت باضطراد إلى نزعة "تلفيقية" جسدتها المراوغة الملحوظة بين الأبنية ووظائفها العملية، بين المؤسسات وأدوارها الحقيقية، فهناك دائمًا البرلمان لكنه لا يشرّع، وهناك المركز البحثي الذي لا ينتج علمًا بالطبيعة أو معرفة بالمجتمع.. إلخ.

ثمة دافع سياسي مؤكد لهذا الانحراف نحو التلفيق، يتمثّل في الفجوة الكامنة بين طبيعة السلطة العربية التقليدية حتى النخاع وبين الشكل الحداثي الذي تمت استعارته، بين الخطاب الإيديولوجي الذي أطلقته حول التنمية والديمقراطية والعدالة، وبين المسارات العملية التي سلكتها نحو الاستبداد والظلم، خصوصًا وأنّ التيار التوفيقي قد مثل الصيغة الثقافية لتجارب عربية عديدة ولكنها متناقضة على الصعيد السياسي كالناصرية في مصر والبعثية في العراق وسوريا وأغلب الدول التي اعتبرت نفسها تقدمية في ظل حركة المد القومي كالجزائر وتونس.

لاستعادة هويتنا من براثن الزمن فنصبح أمام "ذاتنا" التي تعكس تكويننا لا "ماضينا"

بل إنّ هذه الصيغة كانت أساس الشرعية لدى دول وصفت بالرجعية كالمغرب والأردن، لأنّ وصف الرجعية انطبق على الموقف السياسي من المتنافسين في الحرب الباردة، وليس على المرجعية الفكرية لهذه التجارب الوطنية، التي تشابهت في نزوعها إلى تمثل نمط الحياة الحديث من داخل مرجعية أخلاقية تحتذي المبادئ العليا للشريعة الإسلامية، كما نصت دساتير أغلب تلك الدول، صراحةً أو ضمنًا.

لكن ثمة أيضًا جذر ثقافي لهذا الانحراف التلفيقي يتمثل في ذلك الخيال السلبي الذي أشاعته ثنائية "الأصالة - المعاصرة" أو ما يشبهها من قبيل "التراث - الحداثة"، والتي جرى اعتمادها لمشروع التجديد. فالنظرة المدققة تكشف عن أنّ الذات العربية وضعت في علاقة سلبية مع الزمن، حيث ينطوي مفهوم الأصالة على بُعدين متداخلين: أولهما حقيقي ينصرف إلى المكونات الأساسية للهوية الثقافية، كالعقيدة الدينية، والقومية، واللغة، والتجربة المشتركة.. إلخ. أما الثاني، فمتوهّم، يشير إلى قوالب الحياة وأنماط العيش، أي البيئة التي تشكلت فيها مكونات الهوية للمرة الأولى.

هكذا باتت القوالب التاريخية التي صُبت فيها الذات العربية في عصر النبوة، وما تلاه، هي مستودع الأصالة الكاملة. ولم تعد الذات العربية المعاصرة طرفًا في ثنائية يتجادل مع طرفها الآخر ممثلًا في الذات الغربية المعاصرة (الحداثة) بل طرف في ثلاثية تجمع بينها، وبين صورة الذات القديمة حاضنة الأصالة، وصورة الآخر الغربي حاضن الحداثة، ليزداد شعورها بالاغتراب وتقع في أسر التلفيق.

يقتضي الخروج من أسر الحالة التلفيقية هذه استعادة هويتنا من براثن الزمن، بالتأكيد على مكوناتها الأساسية وليس على لحظة تكوينها، ليصبح حضورها رهنًا باستلهام ثوابتها، وليس استعادة القوالب التاريخية التي أحاطت بلحظة تدشينها، فنصبح أمام "ذاتنا" التي تعكس تكويننا لا "ماضينا"، وتتحرر هويتنا من مفهوم الأصالة والخيال الماضوي الساكن فيه لترتبط بمفهوم "الكينونة" وثوابته الجوهرية.

لتبني ثنائية نقدية "الدين - العلم" أو "العقل - الإيمان"

هنا يمكننا تحقيق الفصل، مثلًا، بين عقيدة التوحيد المطلق المحررة للذات الإنسانية، وبين التأويلات الكلامية التي تجعلها عقيدة جبرية خصوصًا لدى الجهمية والأشعرية. بين مبادئ الشريعة المتجذرة في النص القرآني وبين الفقه المتغيّر حسب البيئة. بين السلوك الأخلاقي المحتشم وبين أشكال اللباس البدائي كالنقاب. ومن ثم ندعو إلى التخلي عن الثنائية التوفيقية "الأصالة - المعاصرة"، "التراث - الحداثة" وتبني ثنائية نقدية "الدين - العلم" أو "العقل - الإيمان". يعنى الإيمان هنا كل المنظومات الرمزية التي شكلت الذات العربية الراهنة بكل ما اكتسبته عبر تاريخها من سمات جوهرية، بعيدًا عن القوالب الشكلية المرتبطة بالزمن. ويعني العقل كل ما هو موضوعي وجوهري وعام في عالمنا يمت بصلة إلى التجربة الإنسانية المشتركة.

تعمل هذه الصياغة النقدية كآلية ذهنية لتسهيل عملية التكامل بين القيم الجوهرية الكامنة في ذاتنا والقائمة في عالمنا، كونها قادرة على أن تفصل بين الشكل والمضمون، بين الطقوس والقيم، الثوابت والمتغيّرات، وأن تعزل القوالب: الطقوس والمتغيّرات لأنها تاريخية تعكس لحظة التشكيل، وتبقي على الجواهر: القيم والثوابت لأنها تكوينية تصنع الهوية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن