تقدير موقف

ما مدى إمكانية تطوير "فيسبوك" عربي؟ (2/2)اعتبارات التخطيط والتصميم

تتمة للسؤال المطروح وإجابته الممكنة في الحلقة الأولى من هذا الموضوع: (هل بإمكاننا تطوير برمجيات عربية مستقلة للتواصل الاجتماعي، مثل تطبيق فيسبوك؟)... لنبدأ مثلًا بتطوير تطبيق أو أكثر من تطبيقات التواصل الاجتماعي. تطبيق حقيقي، متحرّر من هيمنة التكنولوجيا المعلوماتية التي تفرضها كبريات الشركات الدولية متعددة الجنسيات، وعابرة الثقافات، ومغيّرة المجتمعات؟.

ما مدى إمكانية تطوير

أجل، في وسعنا عمل الكثير في هذا الشأن، ولكن علينا أن نضع في اعتبارنا جملة من الاعتبارات الأساسية، خاصة على مستويي التخطيط والتصميم، منها ما يلي.

على مستوى التخطيط العام:

ضرورة أن يكون التوجه الاستثماري العربي في مثل هذا المشروع، في معظمه توجهًا تنمويًا بالدرجة الأولى، يساهم في التنمية المستدامة للمجتمعات العربية، ويثري الثقافة والمعرفة العربية والإسلامية والإنسانية.

لا بأس من إتاحة مساحة معيّنة للاستثمار التجاري جذبًا للمستثمرين من أجل مزيد من التطوير للمشروع، فضلًا عن أنّ مثل هذه المشاريع تحتاج إلى الصيانة والتحديث وقدرات المنافسة المتطورة، وما إلى ذلك.

ضرورة أن يُـخطَّط للتطبيق بما يخدم الانتماء الفعلي لهذه الأمّة وألا تكون له سياسة ولاءات حكومية

أهمية توظيف خبراء عرب للقيام بمثل هذا المشروع، من ذوي الخبرة في مختلف مجالات التطوير البرمجي في التحليل والتصميم والتنفيذ والاختبار والمتابعة والصيانة، ولا بأس من استئجار خبراء أجانب موثوق فيهم، أو تكليف شركات مشهود لها بالنزاهة واحترام الزبائن والخصوصيات.

ضرورة أن يتصف التطبيق بالمواصفات الأساسية المطلوبة، مثل الاستقلالية التقنية، والضمانات القانونية، والخصوصية، والأمان العالي.

أن تكون مسميات التقنيات المستخدمة عربية، بدءًا من اسم التطبيق نفسه، وكل ميزاته التقنية، مثل الوظائف والأيقونات المستخدمة.

أن يُـخطَّط للتطبيق في عمومه بما يخدم الانتماء الفعلي لهذه الأمّة، ويتميّز بخصوصيتها الثقافية والإبداعية عن التطبيقات العالمية الأخرى.

أن يكون ولاؤه في مخططات تصميمه لمسارات النهضة المجتمعية والتقدّم الحضاري، وفتح آفاق واسعة للتلاقح الفكري العربي، والإنساني، والمساهمة في تعزيز كل ما يجمع ولا يفرق، ويضم ولا يشتت، ويعزز الثقة في النفس والذات العربية والإسلامية.

أن يكون له توجه إنساني خاص، يخدم القضايا العربية في البيئات الرقمية المختلفة، وألا تكون له سياسة ولاءات حكومية أو أيديولوجية موجهة، بل غايته خدمة الإنسان العربي والمسلم، والإنسان الحر الذي يحمل القواسم الإنسانية المشتركة في القيم والمُثل والمبادئ والتوجهات.

أن يوفر التطبيق المطلوب تقنيات عملية مبتكرة، متنوعة، تسهم في تعزيز الرموز العربية والإسلامية والإنسانية.

أن يركّز على إمكانيات اللغة العربية، والمرجعية الثقافية العربية والإسلامية، والإنسانية الحضارية.

على مستوى التصميم الفني:

أن يتصف التطبيق المطلوب بجميع الصفات الموجودة حاليًا في أبرز وسائل التواصل الاجتماعي العالمية، ويتجنّب ما يكتنفها من عيوب ومساوئ.

استعمال لغات البرمجة المستخدمة في تطوير التطبيقات الرقمية، مثل اللغات مفتوحة المصدر التي استُخدمت في تطوير فيسبوك، PHP مثلًا، وغيرها من اللغات والأدوات البرمجية الذكية.

تطوير لغات برمجة عربية خاصة، تعزز الاستقلالية، والخصوصية، والاعتماد على الذات، كالتي طوّرتها فيسبوك (مثلًا لغة Hack) لأغراض تطويرية عزّزت مبتكراتها، وزادت من احتكارها التقني والتجاري.

أن يتيح التطبيق المطلوب إمكانية استخدامه على مختلف أجهزة الحواسيب، والأجهزة المحمولة بأنواعها، والهواتف الذكية.

بالإضافة إلى ما تقدّم، لا يقف سؤالنا على حدود إمكانية التطوير البرمجي البحت، ومجرد إطلاق التطبيق ونشره على الإنترنت فحسب.. ولكن، ماذا عن متابعة المشروع، وتحديثه باستمرار، وصيانته، وزيادة ترقيته إلى مستويات أعلى من الجودة التقنية والفنية الجمالية... إنّ مثل هذه المتطلبات تلزم وضع خطة مناسبة لها، خطة قابلة للتحديث في ذاتها وفق معطيات بيئة السوق والتنافس البرامجي العالمي، وتطورات العتاد الحاسوبي والشبكي الاتصالي. فنحن في بيئة الشبكات المتطوّرة والمتجددة على مدار الساعة، في عالم الشركات التقنية المتقدّمة، والتي بدورها تتنافس بمختلف وسائل التنافس التكنولوجية والتجارية والإعلامية، الأمر الذي يفرض على مشروعنا المنشود ضرورة تزويده بخصائص القوة تباعًا، وإمداده دومًا بأفكار جديدة.

الجامع الأساس لمختلف عناصر الرؤية العربية المشتركة هما عنصرا اللغة والثقافة وهذان عربيان خالصان لا ينازع فيهما أحد

ربما الأمر يتطلب الحديث عن منتجي/مشتغلي المعرفة knowledge workers، المفكرين التقنيين والثقافيين في الوقت نفسه. معنى هذا أنّ المشروع المأمول نجاحه بدرجة عالية من النجاح يلزمه فريق عمل أكبر من مجرد فريق تقني تنفيذي... وإنما يفترض أن يكون ضمنه أفراد تتعلق مهامهم بإنتاج المعرفة المطوّرة للمشروع، أفراد يضمنون بلوغه الجودة العالية، بحيث لا يمكنه التخلّف عن مستجدات التطوير التكنولوجي الكوكبي.

الحقيقة أنّ ما نقدّمه في مثل هذه المقالات، هو مجرد تصوّرات عامة لهذا الموضوع الذي يحتاج إلى تفاصيل كثيرة في كل جزئياته التي عرضنا لها... ومع ذلك، ما قدّمناه هنا من نقاط عامة، تدعو إلى التفكير بشأنها بصورة أو بأخرى من قبل المهتمين بالتطوير التكنولوجي في عالمنا العربي، لأنها من الأهمية بمكان أن تضيء الطريق لتحقيق المطلوب، وتساهم في توسيع زاوية النظر بشأنه. ذلك أنّ الموضوع له أبعاد كثيرة، ترتبط بالتصوّر الشامل المتكامل لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات العربية التي، كما أسلفنا في أكثر من مقال سابق، لا بد أن تنطلق من خلال رؤية تكنولوجية مجتمعية متوازنة ومتكاملة عربيًا، تعضد بعضها بعضًا، حيث أنّ الجامع الأساس لمختلف عناصر الرؤية العربية المشتركة هما عنصرا اللغة والثقافة، وهذان عربيان خالصان لا ينازع فيهما أحد. ولا يمكن لأي بلد عربي أن يقفز عليهما ولا ينسلخ من نفسه ذاتًا وموضوعًا.

لتجاوز الهوة الرقمية بيننا وبين الغرب المتقدّم وهي في حقيقتها هوة اجتماعية وثقافية واقتصادية عميقة

لذا، نكرر القول بأنّ البدء بتطوير تطبيقات التواصل الاجتماعي، خطوة صحيحة على الطريق الصحيح، لعلّنا نحرز من خلالها قدرًا من الاستقلالية التكنولوجية، والثقافية، في عالم الثقافة الرقمية الكونية.

إنّ ما تمرّ به أمّتنا العربية من تحديات في شتى مظاهر الحياة يوجب على المفكرين والمثقفين والمستثمرين والتكنوقراط العرب، إلى جانب أصحاب القرار السياسي والإداري والتجاري في بلداننا العربية كافة، تكثيف الجهود المتنوعة، وجمع الدعم المعنوي والمادي، ورفع المعوقات ومعالجة الصعوبات، مهما كانت؛ حتى نصل إلى كلمة سواء في سبيل تجاوز الهوة الرقمية بيننا وبين الغرب المتقدّم، والتي هي في حقيقتها هوة اجتماعية وثقافية واقتصادية عميقة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن