هو دفاع مهم لأنّ أعداء المقاومة وكذلك غير المؤمنين بجدوى النضال المسلّح يلحّون على فكرة أنّ عملية "الطوفان" لم تجلب سوى المجازر البشرية والخراب العمراني، وأنّ المسؤول عن ذلك هو المقاومة في غزّة التي كان يجب أن تدرك الخلل في ميزان القوة بينها وبين المستعمر، ومن ثم قدرته على أن يمارس جرائمه دون رادع، ومن ثم كان عليها أن تبحث عن وسيلة أكثر جدوى للنضال التحرري، ولتكن مثلًا النضال المدني بما في ذلك المقاطعة الاقتصادية، وكذلك النضال الدبلوماسي في المحافل الدولية.
الاستعمار يسارع إلى ممارسة أبشع صور العنف ضد الشعوب المستعمَرة بمجرد أن ترفع رؤوسها مطالبة بالاستقلال
ربما غاب عن هؤلاء، رغم ما يبدو في أطروحاتهم من سلامة في المنطق، أنه قد يكون من المفيد الرجوع إلى خبرة التاريخ، وبالذات خبرة حركات التحرّر الوطني الحديثة والمعاصرة، فالشعوب لا تلجأ للنضال التحرري مختارة، وإنما لهول ما تشهده وتعانيه من فظائع سياسات الاستغلال الاستعماري، والسياسات المُذلة المهينة للكرامة البشرية المصاحبة لها، وهي عندما يبدأ وعيها بضرورة النضال ضد الاستعمار تتوهم أو تتمنى عادةً، أو على الأقل قطاعات منها، أن يكون هذا النضال سلميًا، لكن الاستعمار الذي لا يتخيّل فقدان ثمار استغلاله للشعوب المستعمَرة، ولا يثق لحظة في قدرتها على النضال من أجل انتزاع حقوقها، يسارع إلى ممارسة أبشع صور العنف ضدها بمجرد أن ترفع رؤوسها مطالبة بالاستقلال، أو حتى بتحسين الأوضاع وتلطيف عمليات الاستغلال الاستعماري، وعندما يتأكد وقوع هذا العنف وتبدو نتائجه الإجرامية واضحة تمامًا للعيان تدرك الشعوب أنه لا مناص من النضال المسلّح، وقد تتحوّل بعد حين للنضال المدني جزئيًا أو كليًا، لكن النضال المسلح يبدو حتميًا لكسر عنجهية الاستعمار وتغيير سياساته.
هكذا تنطق خبرات التحرّر الوطني المعاصرة التي تراكمت لدى الشعوب التي خضعت للاستعمار في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ولنا في خبرة حركة التحرير الجزائرية عقب الحرب العالمية الثانية خير مثال.
ألم يتظاهر الجزائريون في آيار/مايو ١٩٤٥ عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية مطالبين بالاستقلال فكان رد فعل السلطات الاستعمارية الفرنسية هو العنف المفرط في معظم أرجاء الجزائر؟، وهو العنف الذي أودى بحياة آلاف الجزائريين الذين تقدّر بعض المصادر أنهم وصلوا إلى ٤٥ ألف شهيد، وبعدها وضحت الصورة تمامًا أمام العقل الجزائري، ومفادها ألا مناص من النضال المسلّح الذي تفجّر في الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٥٤، وتمكّن من تصفية الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي دام حوالى قرن وثلث القرن في أقل من ٨ سنوات. وفي تلك السنوات دمّر الاستعمار الفرنسي ما دمّره في الجزائر، وأوقع قرابة المليون ونصف المليون شهيد من أبناء الشعب الجزائري.
وكل هذه رسائل لمن يكيلون الآن الاتهامات للمقاومة في غزّة بأنها تسببت في سقوط ما يزيد عن مائة ألف فلسطيني ما بين شهيد ومصاب، فالمقاومة في فلسطين كلّها، وليس في غزّة وحدها، لم تندفع إلى النضال المسلّح، وإنما جاء قرارها في هذا الشأن بعد أن تجسّد المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، وبدأت تداعياته على الشعب الفلسطيني قتلًا وتشريدًا واغتصابًا للحقوق الفلسطينية، وتحقيرًا ومهانةً وإذلالًا للفلسطينيين، كما تشهد بذلك الوقائع الثابتة والأشرطة المصوّرة، وتطوّرت هذه المقاومة، وأبدعت في النضال المسلّح وأساليب النضال الأخرى على نحو ما بدا في الانتفاضة الكبرى المعروفة بانتفاضة الحجارة التي بدأت في أواخر ١٩٨٧، واستمرت حتى مطلع التسعينات، وعندما بدا أنّ هذا النضال المدني قد أتى أُكُلَه، ومهد الطريق لإمكانات حل تفاوضي لم تتردد منظمة التحرير الفلسطينية في المشاركة في مؤتمر مدريد ١٩٩١ وإن بوفد لا يحمل اسمها تلبيةً للشروط الإسرائيلية.
وعندما بدت المماطلة والمراوغة الإسرائيلية كأوضح ما تكون وفشل مؤتمر مدريد وافقت المنظمة على المشاركة في مسار "أوسلو"، ووقعت الاتفاقية التي تحمل هذا الإسم في ١٩٩٣، والتي كان أهم ما فيها رغم قصورها الفادح اعتراف إسرائيل بالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني، بعد أن كانت تعتبرها منظمة إرهابية، ولا تعترف بوجود هذا الشعب أصلًا وفقًا لمبدأ أرض بلا شعب - أي فلسطين - لشعب بلا أرض - أي اليهود -، وإن اعترفت المنظمة بالمقابل بدولة إسرائيل، وهو ما يعده البعض أو حتى كثيرون خطأً استراتيجيًا جسيمًا، ومع ذلك فقد كان الأمل معقودًا على أن تكون هذه الاتفاقية وقد أسّست لهياكل جنينية للسلطة الفلسطينية بداية لمسار يفضي بعد مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات لحل القضايا النهائية في المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، لكنّ شيئًا من هذا لم يحدث، فاغتيل راعي الاتفاقية الإسرائيلي إسحق رابين في ١٩٩٥، وسرعان ما وصل نتنياهو للحكم في ١٩٩٦ لأول مرة ليعلن انقضاضه على الاتفاقية.
هذه الجولة الأخيرة من جولات المقاومة الفلسطينية حققت إنجازات يسهل وصفها بالاستراتيجية
وتمضي الأمور بعد ذلك في شد وجذب لمدة تجاوزت ثلاثين سنة دون أن تُحل قضية واحدة من قضايا الوضع النهائي، وتمضي إسرائيل خلال هذه المدة الطويلة في تغوّلها الاستيطاني، وإمعانها في انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني كما تشهد بذلك الوقائع الدامغة ومعظمها مصوّر، وبعد هذا كله يظهر من بيننا من يلوم المقاومة على لجوئها للسلاح، وتسببها في استشهاد وإصابة عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وكأنّ المطلوب من الشعوب أن تقبل الظلم والاضطهاد والإلغاء، وهو ما لم يحدث في كافة تجارب التحرّر الوطني، ولا يدري أحد لماذا يكون الشعب الفلسطيني وحده استثناءً من هذه القاعدة؟
غير أنّ المسألة لا تقف عند حد أنّ سلوك المقاومة الفلسطينية سلوك نمطي يتسق وكافة تجارب التحرّر الوطني، أو أنّ الشعب الفلسطيني تحمّل عبر تاريخ الاحتلال الصهيوني لبلاده وحتى الآن تضحيات هائلة تحمّلتها شعوب كثيرة قبله لانتزاع استقلالها، وإنما يجب التأكيد على أنّ هذه الجولة الأخيرة من جولات المقاومة الفلسطينية قد حققت إنجازات يسهل وصفها بالاستراتيجية، ولا بد من إلقاء نظرة تحليلية ثاقبة عليها، وقد يكون هذا موضوعًا مهمًا لمقالة قادمة.
(خاص "عروبة 22")