بصمات

هل نشهد موت الثقافة العربية؟

شهدت الثقافة العربية في العقدين الأخيرين حالة من التدهور، كما تراجع دور المثقف بشكل لافت، فزخم المعارك الفكرية الكبيرة توارى، والمشاريع الفكرية الشاملة لم تعد تحظى بالقبول، ولا أسماء محل إجماع تستطيع أن تحرّك الواقع أو تؤثّر في المجموع العربي، ربما يكون في هذا كله بعض القسوة، لكنه جزء من الواقع المعاش الذي نراه من حولنا، فهل نشهد موت الثقافة في بلاد العرب مع صعود التافهين في عصر التواصل الاجتماعي؟.. هل تموت الثقافة العربية أمام هجمة مزدوجة من الأصولية والأمركة.. أم أنها تمتلك مقوّمات العراقة والأصالة التي تجعلها قادرة على البقاء والمقاومة للبحث عن مكان في المستقبل؟.

هل نشهد موت الثقافة العربية؟

الثقافة في التعريف هي مجموعة من الأفكار والمعارف والقيم والعادات التي يتشاركها أعضاء المجتمع، في إطار من لغة حاكمة وهي في حالتنا اللغة العربية، والتي تتجلى كلّها في أشكال مختلفة من الكتابة والفنون والموسيقى والأخلاق والقانون وغيرها من الأمور التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوًا في المجتمع. وإذا طبّقنا هذا التعريف على وضع الثقافة العربية سنجد أنها تعاني على جميع المستويات، وبصورة جلية في التراجع الحاد لمعدلات القراءة، مع تهميش الفنون الراقية لصالح كل ما هو سطحي ومبتذل في مجتمعات لا تزال تعاني من الأمية.

ساعدت برامج التعليم السيئة في تسطيح عقول أجيال من المواطنين

بالتوازي مع هذا، يعيش الكثير من المثقفين العرب حالة من الغربة في الزمن الحالي، حياتهم في جزر معزولة، خطابهم بعيد وبلا تأثير، واشتباك البعض منهم بلا أثر، بينما فضّل البعض الانزواء، والبُعد عن صخب "السوشيال ميديا"؛ التي تسيطر عليها التفاهة وقيم التسلية ونجوم استعراضات "التيك توك" التي تسلع الإنسان، في ظل هيمنة ثقافة استهلاكية مستوردة من المجتمع الأمريكي، جعلت القيمة الوحيدة في المال فقط، بينما ساعدت برامج التعليم السيئة في العديد من الدول ومنها مصر - أكبر مركز ثقافي عربي - في تسطيح عقول أجيال من المواطنين الذين ينفقون الوقت في التسلية التي تلهي عن مصاعب الحياة اليومية، بعيدًا عن الاشتباك في قضايا معنية بجوهر الثقافة العربية التي تواجه تحديات داخلية وخارجية جمة بصورة غير مسبوقة.

تحوّلت الثقافة العربية إلى ثقافة هامشية على المستوى العالمي - لم يفز بجائزة نوبل في الآداب إلا أديب عربي واحد -، وتعاني اللغة العربية من ضعف شديد في العديد من الدول مع تصاعد الاعتماد على اللغات الأجنبية وظهور الكائن المشوّه المدعو بـ"الفرانكو عرب"، وبدل من أن نصدّر الثقافة العربية إلى المجتمعات الأخرى، بات الأمر معكوسًا؛ إذ نعمل على إخضاعها لمقاييس الثقافة الأمريكية الوافدة، لذا ترى الكثير من الأدباء والشعراء يكتبون على النهج الغربي بلا أي تبيئة لهذه الأفكار في المجتمعات العربية، بل ينشغل بعض المثقفين بقضايا فكرية مجردة بديلًا عن الانشغال بالتعثّر اليومي للمواطن العربي المطحون في مجتمعات تعاني من أزمات داخلية تحتاج لتضافر العقول لحلّها، لذا لا غرابة أن نجد اتهامات الخيانة تطال المثقف العربي الذي فضّل النأي بنفسه عن ملفات قد تجعله في مواجهة مفتوحة مع الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة.

هل يعني هذا أنّ مصير الثقافة العربية قد حُسم؟ بالطبع لا، هناك مساحات مختلفة من المقاومة، مثل استخدام وسائل التواصل نفسها في عرض منتج ثقافي عربي جيد يشتبك مع الواقع والتراث على حد سواء، وهناك منصات إلكترونية تتيح لشباب العرب مساحة من التفكير والبوح والنقاش حول ملفات تهم قطاعات واسعة من الجمهور العربي، فضلًا عن نجاح منصات "البودكاست" التي تلقى رواجًا في الآونة الأخيرة في استقطاب جمهور متعطش لهذا النوع من النقاش الجاد المقدّم بصورة عصرية، حتى ولو كان مستوى الطرح لا يزال محل تردد وسط مخاوف من الرجعية المنتشرة بفعل انتشار الفكر الأصولي الذي عطّل ملكات النقد وشل إمكانات الاشتباك الحقيقي مع التراث، وأدخل العقل العربي في مرحلة من العبث اللافكري لعقود.

العديد من الحكومات العربية القائمة ترى أنّ شرط بقائها هو استمرار تجهيل الشعوب

إذن عوامل المقاومة موجودة وتحارب من أجل ثقافة عربية تحظى بتأثير وحضور بين الأجيال الشابة، أي الاشتباك مع معركة المستقبل وخلق مساحات من الوعي بالمشترك العربي المتخطي لحدود القطرية، والبحث عن أسباب أزمات المجتمعات العربية الجلية لكل متابع، لكن المعركة ليست سهلة والنجاح ليس مضمونًا، بل أنّ عوامل تبديد الثقافة العربية في مواجهة الغزو الثقافي الأمريكي قائمة، وهو أمر يحتاج إلى جهود ضخمة لا تتوقف عند النخب الثقافية بل تتخطها لتصل إلى تبني الأنظمة والحكومات لخطط الدعم، ومن أسف أنّ العديد من الحكومات العربية القائمة تُعادي الثقافة وتحارب الفكر لأنها ترى أنّ شرط بقائها هو استمرار تجهيل الشعوب وهو أمر يضرّ بالثقافة العربية بالمجمل، لذا تبدو معركة الدفاع عن الثقافة العربية في اللحظة الراهنة على المحك كونها مفتوحة على جميع ميادين الحرب، فضلًا عن أنها غير مضمونة النتائج.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن