إسرائيل فقدت حصانتها، التي كانت تمنع استهداف أراضيها بصورة مباشرة. إننا أمام بروفة أولى لما قد يحدث تاليًا من هجمات وهجمات مضادة. الهجوم الإيراني، في سياقه وحدوده، من تداعيات الحرب على غزّة. هذه حقيقة لا يصح إغفالها.
إذا ما تفاقمت المحرقة الفلسطينية في غزّة فإنّ سيناريوهات الحرب الإقليمية لا يمكن استبعادها.
بدا مستلفتًا ما صرح به وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان صباح اليوم التالي للهجوم أنّ بلاده أبلغت مسبقًا الولايات المتحدة عبر دول أخرى أنّ العملية الانتقامية المقررة سوف تكون "محدودة" ولا تتعدى حق الدفاع عن النفس.
لم تكن هناك مفاجأة في تلك العملية، لا بتوقيتها ولا حدودها.
كان ذلك مقصودًا حتى لا تجد إيران نفسها بالفعل ورد الفعل منخرطة في حرب إقليمية واسعة، لا يريدها أحد، باستثناء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للخروج من أزمته العميقة، التي تهدد مصيره السياسي، حيث فشل تمامًا على مدى أكثر من ستة أشهر في حسم أي من أهداف الحرب على غزّة. لا اجتث حركة "حماس" ولا استعاد الأسرى والرهائن دون صفقة سياسية ما يزال يماطل في التوصل إليها.
ذهبت إيران إلى "عملية محدودة" لها دوي وأثر سياسي ومعنوي بأكثر من الأثر العسكري
لم يكن واردًا تمكين نتنياهو من تحقيق سعيه لتوسيع نطاق الحرب على غزّة.
أخطر السيناريوهات جرّ إيران لحرب إقليمية واسعة تستدعي تدخلًا عسكريًا أمريكيًا وغربيًا بذريعة حماية إسرائيل.
في مستوى أقل يسعى لاجتياح رفح مهما كانت كلفته من مجازر مرعبة بحق مليون ونصف المليون نازح فلسطيني "محشورين" في المدينة الحدودية الصغيرة بذريعة أنها فرصته الأخيرة لتحقيق ما يسميه "النصر المطلق".
كما يطلب اجتياحًا جديدًا للجنوب اللبناني بذريعة إعادة السكان إلى مستوطناتهم في الشمال الإسرائيلي، الذين نزحوا عنها هروبًا من عمليات "حزب الله".
الحسابات الاستراتيجية تحكمت في العملية الانتقامية، حدودها وأهدافها.
بدا مأزق إيران محكمًا. إذا تهاونت في الانتقام من الاستهداف الإسرائيلي لقنصليتها بدمشق ومقتل بعض كبار قادتها العسكريين فإنها تفقد هيبتها الإقليمية، وربما تماسكها الداخلي.
وإذا ردت في العمق الإسرائيلي بطاقة نيران تتجاوز فكرة الانتقام فإنّ ردات الفعل قد تفضي إلى تقويض مكاسبها الإقليمية وتتيح بالوقت نفسه لنتنياهو استثمار الحدث لترميم صورة إسرائيل، التي تضررت بأثر جرائم الإبادة الجماعية والتجويع المنهجي بقطاع غزّة.
بين خيارَيّ التهاون في الانتقام بآثاره السلبية على صورتها السياسية والتورط بحرب إقليمية واسعة لا تريدها، ذهبت إيران إلى "عملية محدودة"، لها دوي وأثر سياسي ومعنوي بأكثر من الأثر العسكري.
أعلنت مسبقًا نواياها للتحكم في ردات الفعل الأمريكية. في الحدود التي قررتها طلبت تعديلًا جوهريًا في قواعد الاشتباك، حتى يكون بإمكانها أن ترد مستقبلًا بصورة أكبر وأعنف على أية عملية إسرائيلية تستبيح أراضيها، كما لم تفعل من قبل.
كان مستلفتًا في ذلك الهجوم تركيزه على قاعدة جوية إسرائيلية بالنقب انطلقت منها الطائرات، التي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق.
أرادت طهران أن تقول إنّ هذا موضوع الهجوم وهدفه وحدوده.
بحسب مجلس الأمن القومي الإيراني فإنه "الحد الأدنى من الإجراءات العقابية".
لم تستخدم أحدث ما في منظومتها الصاروخية، كأنه رسالة ردع مسبقة لإسرائيل.
بالمفارقة اتهم نتنياهو الهجوم الإيراني بأنه استهدف جرّ المنطقة إلى حرب إقليمية!
إنه نوع من المخاتلة المعتادة. حاول الإيحاء بأنّ الردّ الإسرائيلي سوف يكون مروعًا، غير أنّ مجلس الحرب الإسرائيلي لم يصل إلى أي قرار عن الرد ونطاقه.
تأجل لوقت آخر بأثر "فيتو" معلن من الإدارة الأمريكية، التي تولت قواتها أغلب مهمة التصدي للمسيّرات والصواريخ الإيرانية خارج المجال الجوي الإسرائيلي. بمقتضى الحسابات الأمريكية فإنها ملتزمة بالدفاع عن إسرائيل وأمنها وليست طرفًا في أية عملية هجوم تقوم بها داخل إيران.
لم تكن هذه بدورها مسرحية أخرى.
في أعقاب السابع من أكتوبر/تشرين الأول هرعت الإدارة الأمريكية إلى إنقاذ إسرائيل، ووفرت غطاءً استراتيجيًا وعسكريًا وسياسيًا لعملياتها بقطاع غزّة، التي وصلت إلى حرب إبادة شاملة بدواعي الانتقام واستعادة هيبة جيشها وقدرته على الردع والتخويف.
مرة أخرى تتدخل الولايات المتحدة لحماية إسرائيل، التي تعجز بمفردها في الدفاع عن نفسها!
رغم ذلك كله حاولت إسرائيل، أن تقنع نفسها وتقنع الآخرين، أنها هي التي تصدت للهجوم الإيراني وأفشلته، فيما الحقيقة يعرفها العالم كله.
كما حاولت أن تستثمر في الحدث لترميم صورتها الدولية، التي تقوضت في الحرب على غزّة حتى باتت دولة منبوذة في مرآة الضمير الإنساني.
إنه حرف انتباه عن جرائمها، التي تحاكَم عليها أمام "العدل الدولية" بالحديث عن "الخطر الإيراني المحدق".
بتعبير وزير خارجيتها فإنها "فرصة هائلة ينبغي البناء عليها".
بدأ العزف الأوركسترالي بقيادة أمريكية في أنحاء التحالف الغربي بإدانة للهجوم الإيراني وتأكيد الالتزام بأمن إسرائيل.
هرع الاتحاد الأوروبي وبعده مجموعة الدول السبع الكبرى ودُعي مجلس الأمن الدولي لاجتماع طارئ لترديد الكلام نفسه دون وخز ضمير لما يحدث في غزّة من جرائم لا مثيل لبشاعتها في التاريخ الحديث كله.
السؤال الرئيسي الآن: ما فرص حلحلة المفاوضات في ظل الانكشاف الإسرائيلي الجديد؟
أُرجئت عملية اجتياح رفح حسب ما أعلنه مقربون من نتنياهو.
كان ذلك من تداعيات ما بعد الهجوم الإيراني.
بدت في الوقت نفسه تعقيدات إضافية على المفاوضات المتعثرة بفداحة لوقف إطلاق النار والوصول إلى صفقة تبادل للأسرى والرهائن.
ما فرص حلحلة المفاوضات في ظل الانكشاف الإسرائيلي الجديد؟. هذا هو السؤال الرئيسي الآن.
"واشنطن لا تسعى للتصعيد مع إيران، لكنها ستدافع عن إسرائيل". كان ذلك التصريح تلخيصًا دقيقًا لحسابات المصالح الاستراتيجية الأمريكية دون حاجة إلى مسرحيات هزلية!.
(خاص "عروبة 22")