13 أبريل 2024م، يُؤرخ لأول استهداف مُسلح يقوم به النظام السياسي الإيراني تجاه إسرائيل. نعم، إنه أول عمل عسكري مسلح، مُنذُ تأسيس نظام الخُميني بطهران في 1979م، تقوم به إيران تجاه إسرائيل من داخل الأراضي الإيرانية.
نعم، لقد مضت خمسة وأربعون عاماً على أول تهديد وجهه الخُميني تجاه إسرائيل ولمن يقف خلفها في المجتمع الغربي، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث توعدهم جميعاً بالمواجهة التي تُفنيهم وتبعدهم عن المنطقة بشكل نهائي، لتتحرر شعوب المنطقة، ولتقوم الدولة الفلسطينية. إلا أنه وبعد مُضي تلك العقود المتتالية على تهديدات الخُميني، وشعاراته السياسية ذات اللغة العاطفية والرسالة الداعية للفوضى والدمار، رأينا شبه مواجهة عسكرية مسلحة، بأدوات عسكرية محدودة جداً، سبقتها رسائل إيرانية توضح الوقت المستهدف لبدء العملية العسكرية، والأهداف المقصودة بالاستهداف، والطرق والمسارات المحددة، حتى إذا انتهت شبه المواجهة العسكرية المسلحة، لم نجد قتلى إسرائيليين، ولم نجد خسائر في البنية التحتية الإسرائيلية، ولم نسمع استهدافاً أسقط طائرات حربية إسرائيلية أو دمر منصات دفاعات جوية أو أية نتائج تدميرية للقدرات العسكرية الإسرائيلية.
إذاً، نحنُ أمام حالة صراع غريبة، حيث العداء السياسي والأيديولوجي يمتد لأربعة عقود، بينما أول مواجهة مسلحة ومباشرة بينهما لم يمض عليها أسبوع، مما يعني أنها حالة تستحق التفكر والتفكير حول تبعاتها التي يمكن أن تحدث في المنطقة وتؤثر على سلمها وأمنها واستقرارها ومستقبلها السياسي.
نعم، إن الذي يستدعي النَّظر في تبعات المواجهة على المنطقة وشعوبها ومُجتمعاتها هو توقيتها الذي يتوافق مع تصعيد إسرائيل تجاه غزة بشكل عام ورفح بشكل خاص، ومحدودية العملية العسكرية المسلحة التي لم تؤد لأية خسائر في إسرائيل، وكذلك عدم استخدام إيران لعُملائها ومرتزقتها ووكلائها، في العراق ولبنان وسورية واليمن، لتوجيه ما يملكون من أسلحة تجاه إسرائيل كما كان يحدث في الماضي. لذلك يعتبر التساؤل عن تبعات هذه المواجهة مسألة تستحق التفكر والتفكير حولها.
نعم، قد يرى البعض أن هذه الضربات العسكرية الإيرانية جاءت دفاعاً عن قطاع غزة وما يتعرض له الفلسطينيون في ذلك القطاع من إبادة جماعية، إلا أن الواقع يقول إن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة تجاوزت مدته الستة أشهر حتى تجاوز التدمير مداه، وتصاعدت أعداد القتلى والجرحى حتى تجاوزت مئات الآلاف، وهنا تنتفي الحجة التي تقول إن الهدف الإيراني هو الدفاع عن غزة والفلسطينيين.
وقد يرى البعض أن الضربات الإيرانية تجاه إسرائيل جاءت كردة فعل على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق التي قتل فيها عدد من قيادات الحرس الثوري الإيراني، إلا أن تاريخ الاستهداف الإسرائيلي للمصالح والعناصر والشخصيات الإيرانية ليس بالجديد ومن ذلك استهداف إسرائيل للبرنامج النووي الإيراني بشكل متكرر سواءً من خلال هجمات إلكترونية أو اغتيالات لمسؤولين وعلماء إيرانيين داخل إيران، وكذلك الضربات الجوية الإسرائيلية المُتكررة ضد المصالح الإيرانية في سورية ووكلائها في لبنان بشكل متكرر، وبهذا تنتفي الحجة القائلة إن قيام إيران باستهداف إسرائيل عسكرياً هدفه الثأر للقتلى الإيرانيين في القنصلية المستهدفة.
وقد يرى البعض أن الضربات العسكرية الإيرانية تجاه إسرائيل جاءت دفاعاً عن الفصائل الفلسطينية وانتصاراً لصمودها ومواقفها، إلا أن الواقع يخالف ذلك حيث خسرت الفصائل الفلسطينية كامل بنيتها التحتية بسبب الضربات الإسرائيلية المستمرة مُنذُ ستة أشهر، كما أن الحصار المستمر منذ خمسة عشر عاماً، والذي تصاعد ليكون حصاراً شاملاً مُنذُ ستة أشهر، يُدلل على عدم إمكانية الربط بين الضربات العسكرية الإيرانية والدفاع عن قطاع غزة والفصائل الفلسطينية لأنها لو كانت كذلك لجاءت في أولى أيام العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وهنا تنتفي الحجة القائلة إن الضربات الإيرانية هدفها الدفاع عن قطاع غزة والانتصار للفصائل الفلسطينية.
فإذا كانت هذه الافتراضات جميعها لا تُقبل كتبرير للضربات العسكرية الإيرانية تجاه إسرائيل، فما الذي يمكن أن يُنظر إليه لتبرير هذه الضربات؟ وما الذي يُمكن أن يتبعها من نتائج على المنطقة وشعوبها ومجتمعاتها؟
إننا عندما ننظر لتوقيت الضربات العسكرية الإيرانية المحدودة تجاه إسرائيل، نرى أن إيران وجدت في الحالة الأمنية والعسكرية والسياسية القائمة في قطاع غزة فرصة استثمارية سانحة لزيادة نفوذها الأمني والسياسي في المنطقة، وكذلك فرصة سانحة لتعزيز وجودها الشعبي في نفوس وقلوب وعقول أبناء المنطقة المُتطلعين لمواجهة إسرائيل، والراغبين بنصرة الفلسطينيين، بأي شكل من الأشكال.
نعم، هكذا هي السياسة الإيرانية حيث تستثمر في الأزمات ومصائب الشعوب. فبعد ستة أشهر من التدمير المُمنهج الذي تمارسه إسرائيل تجاه قطاع غزة، وممارستها للإبادة الجماعية تجاه أبناء القطاع، وجدت إيران من خلال استهداف قنصليتها في دمشق مبرراً لاستهداف إسرائيل تحت شعارات عدة منها الدفاع عن غزة ووقف العدوان الإسرائيلي عليها. هذه العملية العسكرية الإيرانية المحدودة تم تصويرها من الإعلام المؤيد لإيران، وكذلك من الإعلام الغربي المؤيد للسياسات والتوجهات الفكرية الإيرانية في المنطقة، على أنها عملية عظيمة أرهبت إسرائيل، ودفعت الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من دول للعمل بشكل موحد لِصد هذه الهجمات الإيرانية الكبيرة. هذا التصوير الإعلامي، والخطابات السياسية المُرافقة لها، من شأنها أن تزيد من النفوذ السياسي الإيراني في المنطقة، وتعزز وجودها ومكانتها في نفوس وقلوب أبناء المنطقة بشكل عام، والمؤيدين لإيران وتوجهاتها الفكرية بشكل خاص. فإذا أيقنا بأن هذه هي الأهداف الإيرانية، فإن ذلك يعني مزيداً من العُملاء والمُرتزقة، والوكلاء الإيرانيون سوف يصعدون في المجتمعات التي تستهدفها إيران، ومزيداً من الجماعات والتنظيمات والميليشيات سوف تنشأ مستقبلاً في الأماكن التي تتطلع لها إيران.
نعم، إنها سياسة إيرانية معهودة ومعمول بها لزيادة النفوذ الإيراني وتعزيز وجودها الشعبي في المجتمعات المستهدفة. ومما يعزز هذه السياسة الإيرانية ويصاعد من وجودها وتمددها هو قدرتها على إبعاد عملائها ومرتزقتها ووكلائها عن المواجهات المباشرة التي قد تفنيهم وتقضي عليهم تماماً، وهذا الذي حدث ويحدث خلال أزمة غزة الحالية حيث ابتعد عملاء ومرتزقة وأحزاب إيران، في لبنان والعراق وسورية، عن المواجهة المُباشرة تاركين خلفهم شعاراتهم وخطاباتهم العاطفية التي ضُلل بها البسطاء من الناس.
وفي الختام من الأهمية القول إن على أبناء وشعوب المنطقة العربية عدم الانسياق وراء رسائل التضليل الإعلامي التي تصور المواجهة العسكرية الإيرانية الإسرائيلية على أنها بين الحق والباطل، وإنما هي بين دولتين توسعيتين تحتلان أراضي عربية، وتستبيحان الدماء العربية، وتنهبان خيرات الشعوب العربية، وتتطلعان لتدمير المجتمعات العربية.
نعم، إن الذي تتطلع له إيران من هذه العملية العسكرية الشكلية يتمثل في سعيها الدائم لتجييش شعوب ومجتمعات المنطقة ضد أنظمتها السياسية من خلال تقديم نفسها بالنظام السياسي والدولة النموذج التي تواجه وتحارب قوى الاستعمار، بينما الآخرون لا يفعلون ذلك، في تضليل وتدليس عظيم تمارسه إيران، بينما لا تدركه الكثير من الأجيال العربية الناشئة.
نعم، إن من أهم تبعات المواجهة الإيرانية الإسرائيلية هو سعي هذه الدول لتدمير المجتمعات المُسالمة والآمنة وزعزعة استقرارها السياسي بإدخالها في مواجهات داخلية حيث تتصادم رغبات الشعوب المُتطلعة لنُصرة الحقوق الفلسطينية مع مجتمعاتها المُدركة لواقع السياسة الإقليمية والدولية.
("الرياض")